22 يونيو . 27 دقيقة قراءة . 821
سهيل فرح
عضو أكاديمية التعليم الروسية
بعد أن ألقينا في الجزء الأول نظرة تحليلة عن الجانب النظري و النفسي و الأكسيولوجي في العقلية الروسية من الأهمية التوقف عند بعض الدلالات العملية الحياتية لهذه العقلية و تحديدا في طرف أدارة المكان و تأثير الموروث التاريخي عليها.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل لروسيا طريقها الخاص في إدارة الاقتصاد ؟ وما هي علاقة الروسي حاكمًا ومحكوما" بالعمل كقيمة ؟ هل هناك من دور مؤثر لمنظومة القيم الثقافية الموروثة على سيرورة تسيير شؤون الدنيا وبالذات الاقتصاد ؟ وكيف يمكن تحديد مكانة روسيا في سياق التجارب العالمية الرائدة التي تمكنت من أن تجمع بين إرثها الثقافي الروحي وبين قيم المعاصرة؟
قبل محاولة الاجابة على هذه التساؤلات لا بد من ذكر مجموعة من الاعمال الرائدة التي تناولت دور الموروث الأخلاقي والروحي في تحريك جوانب معينة من الاقتصاد. ولعلّ أبرزها الكتاب الذائع الشهرة الذي كتبه ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية والرأسمالية" فهو الذي دشن حقلاً معرفيًا جديدًا في علم اجتماع الحضارة أكد فيه على إن الأخلاق في مفهومها البروتستانتي لها الدور المحفز لنشاط الإنسان الإقتصادي في المجتمعات الغربية، والنظرة الخاصة للعمل كقيمة دينية مركزية في حياة الإنسان الفرد وفي حياة الجماعة.
وبالتالي إن التمتع بهذه السمات يجعل المرء يعيش حالة تصالح بين دينه ودنياه، بين إرثه الثقافي وحاضره المعاصر. في حين طلعت أفكار أخرى من علم الاجتماع والانتروبولوجيا تقول بأن تكوّن الإنسان العملي المعاصر، لا يتم ولا يتبلور حضوره الفاعل في النشاط الاقتصادي المعاصر، إلا إذا أحدث قطيعة معرفية وثقافية مع موروثه التاريخي. ويمثل هذه النظرة السوسيولوجي والأنتروبولوجي الأميركي أنكلس، هذا الذي أدار فريق أبحاث لمدة تتجاوز العشرات من السنين. لقد درس سيرورات العصرنة في بلدان مختلفة من القارات الأوروبية والآسيوية والأفريقية والأميركية. وخلاصة أبحاثه (15) تشير كلها إلى إن الدخول الشامل في عصرنة مجتمع معيّن يتطلب التخلي عن كل المعيقات التاريخية الراكنة في الذاكرة الثقافية للمجتمع.
في حين طلعت الدراسات السوسيوثقافية بآراء أخرى مناهضة لإنكلس ومن يتعاطف معه، تشير إلى أن مصالحة لا بل تناغمًا معينًا يمكن أن يحدث بين الموروث الثقافي لمجتمع معين أو لحضارة معينة وبين الحداثة. وأنصار هذا التيار الذي يمثله علماء وبحاثة معروفين من كل القارات تقريبًا، أبرزهم هوفستيد، وغاسكوف، وسالك، سابشيك، ناوموف، لورا، Spence، ماربت، ميرفين فيغا وغيرهم (16).
وتجربة كل من اليابان والصين وماليزيا وسنغافورة أكدت صحة التوجه الثاني. فهذه البلدان قدمت نموذجًا ساطعًا على التوازن بين الموروث الثقافي وبين الدخول بشكل فعال ومن موقع المنتج في عصر الحداثة.
وفي هذه المسيرة العالمية من التوجه الداعي للتوفيق بين التراث والمعاصرة والآخر المنخرط بنشاط في العصرنة دون أن تعنيه كثيرًا الذاكرة التاريخية والرأسمال الثقافي للشعوب، أين تقف روسيا ؟
المقاربات الروسية لهذه المسألة متنوعة لا بل مختلفة إلى درجة التناقض الحاد. وهذا يرجع إلى زمن سحيق في التاريخ الروسي. فقبل إصلاحات بطرس الأكبر، كانت روسيا تحاول في كل مرحلة من مراحل تاريخها أن تكون فلسفة اقتصادية لإدارة دنياها.هكذا كان الأمر في المرحلة الوثنية بعدها في المرحلة المسيحية، وأيضًا بعد بطرس الأكبر، وفي المرحلة السوفياتية الشيوعية. وفي كل مرحلة من المراحل كان العقل الاقتصادي الروسي متخلفًا عن الادارة الديناميكية والمنتجة للمكان. ولكي لا نكون متسرعين بالاستنتاج لا بد من التوقف عند مجموعة من العوامل التي تساعدنا على فهم كيفية إدارة العقل الاقتصادي الروسي للمكان.
إدارة الاقتصاد الروسي والنظرة إلى دور الإنسان في العملية الاقتصادية خضعت في التاريخ الروسي لعوامل داخلية وخارجية. فالفلسفة الروسية حول الاقتصاد لم تأخذ معالم مستقلة ولم تتبلور حتى هذا التاريخ. ذلك لأن العلوم والفلسفات التي برزت أوروبيًا وعالميًا، كان بمجملها منبثقة من العقل الفلسفي والاقتصادي الأوروبي الغربي.
فالفلسفة الاقتصادية الغربية ترتكز بمجملها على مبادئ الملكية الخاصة والمجتمع المدني والفردية. وهذه المبادئ التي يتفاوت حضورها في هذه البلد الأوروبي وذلك فإنها بطبيعة الأمر لم تعكس حقيقة الأمور المتوارثة والراهنة في المجتمعات الأخرى خارج الشق الغربي من القارة الأوروبية وخارج ما يسمى بالغرب عامة. لذا فإن التسمية التي أطلقت عليها بالـ "مركزية الأوروبية" لا تخلو من عدم الصحة. علمًا بأن الفلسفات الاقتصادية الأخرى غير الليبرالية ذات المضمون الاشتراكي والمنطلقة من الفلسفة الماركسية، أكدت حضورها في القرن الماضي، وانتهت إلى ما انتهت عليه في الخمس الأخير من الثمانينات. وهاتان الفلسفتان دخلتا في عمق التفكير الاقتصادي الروسي وما زال السجال دائرًا حول أي منهما أصح لإدارة الاقتصاد الروسي.
بيد إن الرؤية الاقتصادية الروسية لتسيير شؤون الدنيا تحكم فيها عبر التاريخ عاملان، الأول آسيوي والثاني أوروبي. وهذا لا يتعلق فقط بحكم تواجد الاقتصاد الروسي على المدى الجغرافي الأوراسي، بل بعدد من المعطيات التاريخية التي شهدتها روسيا في تاريخها الوسيط والحديث. والتي يمكن اختصارها بالبعد الروسي الأوروبي والبعد الروسي الآسيوي. الأول الذي تكون من خلال قيم أوروبية معينة في الاقتصاد ملخصها المعادلة التالية (مجتمع مدني + مؤسسات حكومية)، تطور الفردية مع اعطاء الأولوية للامتيازات الشخصية. والثاني هو النموذج التاريخي المرتبط بالاستبداد السلطوي الآسيوي الذي يعطي الأولوية لهيمنة ملكية الدولة ولتسلط المؤسسات الحكومية، مع غياب ملحوظ للمجتمع المدني، وغلبة لقيم الجماعة على حساب قيم ومصالح الفرد.
والسؤال المطروح هنا في هذا السياق لأي من البعدين أو العاملين كانت تميل الإدارة الروسية الاقتصادية للمكان وللإنسان ؟
فالذين درسوا روسيا في القرون العشرة الأخيرة ومنهم دراسات بيغافورفا وفورسوفا، 2002؛ شوبايتس 1998؛ سوساكولوف 1994؛ ميجوييف 2001 وغيرهم، يشيرون إلى العوامل الحاسمة التالية التي ميزت الإدارة الاقتصادية لروسيا ولمجمل حياتها الاجتماعية؛ هو كيفية خلق شبكة من العلاقات الاقتصادية بين السكان الروس الذين يقطنون في أماكن متباعدة جدًا عن بعضها البعض وذلك في ظروف مناخية قاسية جدًا تميز مناخات القطب الشمالي من الكوكب. والعامل الآخر ولعله الأهم، وهو العملية التاريخية الطويلة التي تطلبت جمع الأراضي الروسية. فالتمدد الواسع الذي استمر طوال 600 سنة، والفتوحات والغزوات المستمرة التي استدعت من الدولة المركزية أشكال خاصة من الحكم والسلطة، من العسكرة الدائمة للبلاد، الأمر الذي أدى إلى توتر دائم رافق حياة الشعب.
فالباحثتان بيغافورفا وفورسوفا تشيران إلى خصوصية السلطة الروسية في التاريخ الروسي، فتقولان إلى "إن السلطة لم تكن سياسية أو حكومية أو اقتصادية. السلطة كانت سلطة ميتافيزيقية، سلطة بحد ذاتها. فهي عادة ما كانت تنهار إذا كانت أو أرادت، أن تدير نفسها على النمط الحكومي المعترف عليه أوروبيًا، أو أن تطمح لأن تكون سياسية أو اقتصادية بامتياز. هي عادة ما كانت تشرف على الانهيار إذا ما أرادت أن تحكم على الطريقة الغربية، على الطريقة البرجوازية الليبرالية أو غير البرجوازية" (17).
وحسب اعتقادهن فإن الرؤية للسلطة ولعلاقتها بالمكان والزمان تأثرت إلى حد كبير بالموروث التتري والمنغولي في الديار الروسية ردحًا طويلاً من الزمن، الأمر الذي أتى بمفهوم آسيوي خاص للحكم والاقتصاد. والرؤية الآسيوية التترية المنغولية تقول : "السلطة هي كل شيء – السكان أو الشعب لا شيء. السلطة هي الموضوع الاجتماعي الاساسي والحيوي... وهذا مما أدى إلى تحويل الموروث الأوروبي الروسي باتجاه نمط آخر. فالغزو التتري – المنغولي لم يغير فقط العلاقات السلطوية في روسيا، بل إنهم أدخلوا على العالم المسيحي مفهومًا آسيويًا خاصًا للسلطة والاقتصاد..." (18).
لم تشهد روسيا مفهوم الملكية الخاصة، مقارنة مع بعض البلدان الغربية أمثال بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، لكل الشعب إلا في فترة متأخرة جدًا. شهدت روسيا بداية مفهوم جديد للاقتصاد في القوانين التي أصدرتها القيصرة كاترينا الثانية في عام 1785 عندما شرعنت مفهوم "النبلاء والملاك الصغار". الأمر الذي وسع من مفهوم الملكية لتخرج من نطاق السيطرة المطلقة للأرض والاقتصاد من قبل السلطة المركزية الحاكمة...
إلا إن دخول روسيا في الحقبة السوفياتية التي تم فيها مرة أخرى القضاء عمليًا على مفهوم الملكية الخاصة. لقد حصرت الأمور في يد السلطة المركزية التي سيرت الاقتصاد ضمن مفاهيم بدت شكلياً اشتراكية إلا أنها عمليًا كانت أشبه برأسمالية الدولة القابضة على كل الملكيات وبالتالي على كل الاقتصاد. وهي، أي السلطة السوفياتية، في جانب من فلسفتها كانت متأثرة بالموروث الآسيوي المستبد للسلطة والاقتصاد، كما كان الأمر عليه في ظل القياصرة وبالتالي في ظل الحكم التتري – المنغولي لروسيا في أواخر العصر الوسيط.
فعلى المستوى الاقتصادي كانت الغلبة في تسيير المكان والاقتصاد للروح الآسيوية السهوبية الطامحة للامساك بكل مفاصل السلطة بيدها. بيد إن عوامل أوروبية غربية مرتبطة بتنظيم المدن والمواصلات والعمران والتعلم والعلوم والفنون، تبدو فيها روسيا أقرب إلى الروح العملية للعقلية الأوروبية، مما هي إلى الآسيوية.
بين موجات التأثير الأوروبية والأخرى الآسيوية لا يمكن الكلام حتى تاريخه عن فلسفة اقتصادية روسية مستقلة، متمكنة من إدارة المكان والإنسان بشكل ناجع، وبشكل يرضي أكثرية أبنائها مؤمنًا لهم البحبوحة والاستقرار الاقتصادي والنفسي. وغياب العقل الاقتصادي الناجع والمنتج، لا يرجع فقط إلى هذا العامل التاريخي الاقتصادي الحضاري، بل إن سببًا آخرًا، يترك ثقله الملحوظ على هذا العقل وهو المدى الجغرافي الخاص.
في مرحلة ما قبل المجتمع الصناعي كان للعامل الجغرافي والمناخي الدور الحاسم في تحديد نمط الاقتصاد، ومجمل النشاطات الحيوية للبشر. منها العلاقة بقيم العمل والمهارات والكفاءات في الأرياف والمدن... والمجموعات الإتنية وتحديدًا المجموعة السلافية التي استوطنت في الديار الروسية كان لها تجربتها ورؤيتها المميزة للعمل وللعاملين في الزراعة والمهن، ولطرق المسكن والمشرب وللمال والادخار وبالتالي لمجمل العادات المتعلقة بتنظيم طقوس الزواج والولادات وتنظيم شؤون العائلة والعلاقة بفكرة التعلق بالحياة والرهبة من الموت.
ان كل الدورة الاقتصادية التي كانت ينشط فيه,ا وما يزال ، الإنسان الروسي، في الأرياف مثلاً، لا تتعدى الخمسة أشهر. فاليوم الصيفي أو الخريفي أو الشتائي أو الربيعي يخضع لوضع وتقلبات المناخ الروسي. فالخوف من سوء التغيرات المناخية كان يفرض على الفلاح الروسي لأن يسرع الخطى ولأن يضاعف الجهد وذلك في فترة قصيرة من الزمن. فالمزارع الروسي على حد قول المؤرخ الروسي كلوشيفسكي ف. "تعود على العمل بسرعة، وبكثافة في فصلي الربيع والصيف وبعد ذلك يرتاح وتطول الراحة عنده إلى درجة البطالة في فصلي الخريف والشتاء" (19).
ولعل هذه الظروف المناخية الخاصة تترك تأثيراتها على كل حركية الحياة الروسية في الاقتصاد، فتجعلها غير منتظمة، غير متناغمة، وبالتالي تجعل العلاقة مع العمل محفوفة بعدد كبير من المفاجآت والمتغيرات الطبيعية، وهذا الأمر يترك تأثيره أيضًا على تركيبة الطابع القومي للروس. فكما أشار إلى ذلك العالم الروسي بافلوف "بأن الروسي لا يتمتع بعقل حاد يؤهله لأن تكون لديه القدرة القوية على التركيز والمتابعة والنظام والتخطيط الدقيق للوصول إلى الهدف".
والعامل المناخي والجغرافي في هذا السياق له تأثيره على إدارة الحاكم والمحكوم الروسيين للمكان. فالوسع الجغرافي الهائل وبرودة الطقس الحادة المستمرة طوال السبعة أشهر من السنة، والبعد النسبي عن مياه المحيطات والبحار الدافئة، كل هذا يترك بصماته على إدارة الاقتصاد وعلى علاقة الإنسان الروسي بالعمل. إلا أن هذا لا يقلل من سلبية العلاقة مع العمل كقيمة ومن النظرة الدينامية للاقتصاد. فكندا وفنلندا والنرويج وغيرها من البلدان التي تتميز بطقس بارد، تعطي نماذج أكثر فعالية لحراك الإنسان في الاقتصاد، وتعكس قدرة أكثر ديناميكية من قبل العقل الاقتصادي الحاكم للمكان هناك...
مما لا شك فيه هناك عوامل أخرى إتنية ودينية ومذهبية لها رؤيتها الخاصة للاقتصاد في روسيا وهذا بدوره يؤثر على طرق إدارة المكان الروسي. فإلى جانب النظريات الاقتصادية التي طلع بها العلماء الاقتصاديون الروس حول طريق الادارة الاقتصادية للمكان الروسي، كانت هناك مقاربات أخرى للموضوع ملونة بحساسيات وعصبيات إتنية ودينية ومذهبية. ولكل منها كانت له مصالحه وحساباته التي حاولت إضفاء نظرة "علمية" عليها.
فإلى جانب العقيدة الاجتماعية التي اشتغلت عليها النخب الفكرية لأكبر مؤسسة دينية في روسيا وهي المؤسسة الأرثوذكسية، والتي جرى الكلام عنها، في الفصل الثالث لهذا الكتاب، هناك آراء أخرى للمجموعات التترية والتركية والمنغولية واليهودية والقفقاسية والالمانية وغيرها التي تتصارع على اقتسام مناطق النفوذ الاقتصادي في المدى الروسي، تسعى كل منها أن تطرح آراء، أو أن تسجل مواقف متناقضة للأخرى، وكل هذا يخلق عراقيل وعوامل إضافية من أجل أن تكون العمليات الاقتصادية غير متوازنة وبالتالي تكون الثروة غير موزعة على مجمل السكان الروس بشكل عقلاني وعادل.
ولعل الملفت للنظر في هذا السياق بأن أكبر مجموعة إتنية ودينية في روسيا وهم السلاف – الأرثوذكس، لا تحتل إلا المراتب الأخيرة في سلم الإستفادة المادية من الثروات الطبيعية الروسية، فالأولوية تبقى لليهود والأرمن والشيشان والالمان ومن ثم الروس. والشيء الذي يثير المزيد من الانتباه بأن هذه المجموعات، غير السلافية وغير الأرثوذكسية، يلمس عندها قوة الانتماء إلى الوطن الروسي، ليست بنفس الشدة والعمق كما هي عند السلاف وعند الارثوذكس بشكل خاص. هذه نقاط تستدعي بلا شك أبحاثًا موسعة أخرى، المجال هنا لا يتّسع لها.
التناول العام لمفهوم الاقتصاد ولفعالية الإنسان العامل في الديار الروسية تقتضي، للمزيد من الإضاءة على هذا الموضوع، شيئًا من المقاربة والمقارنة مع بعض البلدان لتبيان النقاط المشتركة والأخرى المتمايزة. ولعل من الأهمية بمكان هنا التوقف عند بعض السمات والخصائص التي تميز الروس في نظام العمل والادارة مع بعض النماذج أو السمات والخصائص الأخرى.
سيجري تناول هذه الموضوعة في العقلية الروسية مقارنة مع بعض من مثيلاتها في بلدان متنوعة من الشرق والغرب. وقبل تقديم هذا المشهد المقارن لا بد من التأكيد بأن المنظومة الاجتماعية في سماتها الأساسية تكان تكون هي هي في كل الحقول الاقتصادية وفي مجمل أقطار العالم. وملخصها إن كل منظومة اجتماعية اقتصادية تطمح لأن تأخذ ما في الفرد وعلى مستوى الجماعة أفضل ما لديه و لديها, من أفكار وتجارب من أجل تحسين الانتاج الوطني كمًا ونوعًا. علمًا بأن في كل ثقافة وطنية هناك بعض السمات الخاصة التي تشكلت تاريخيًا والتي تلعب دور المحفز أو المعرقل لتطور الانتاج الوطني على مستوى الأدوات والقوى والمستوى.
وإذا ما تناولنا ثقافة العمل والادارة على مستوى الدائرة الوطنية المحددة وأردنا أن نستقرأ الحيثيات الواقعية لهذه الثقافة يتوجب النظر في فعالية الطاقة العاملة في الانتاج من خلال المؤسسة وعنصرها البشري، ومدى دقة ومدة ونوعية الانتاج اليومي والأسبوعي والشهري والسنوي والجهد العقلي والعضلي للعاملين في الانتاج، الجديد المبتكر، القدرة على الانتقال المرن من نمط إلى آخر وغير ذلك من التفاصيل التي تكمن فيها الحياة الحقيقية للدورة الاقتصادية.
وفي معرض التحليل لهذه الظواهر والحيثيات والمعطيات يتبين للمرء الطاقة المعطاة المبدعة والمنتجة للعمل، والأخرى العادية والثالثة التقليدية الخامدة. ومن خلال هذا تبرز هنا المؤثرات التاريخية لثقافة العمل والادارة ونمط التفكير والعلاقة مع كل العملية الانتاجية في المجتمع.
فالمؤسسات التي تسير الدورة الاقتصادية في المجتمع وبالذات في ظل الثورة المعلوماتية الجديدة، تحرص على أن تكون مؤهلات العاملين فيها، قادرة على مواكبة التطور ومتمكنة من الانتاج الذي يتوخى كسب ثقة المستهلك المحلي والأجنبي. وهذا يتطلب أن يكون الاختصاصي المناسب في المكان المناسب، وأن يكون هذا الاختصاصي على درجة معينة من التحصيل العلمي والمهني وعلى مقدرة ذهنية وجسدية لتنفيذ مخزون الوعي المهني المتواجد في ذهنه. وتجارب الشعوب تقدم نماذج متنوعة من التحصيل العلمي المتقدم والتطبيق الدقيق والجميل وصاحب القدرة على التنافس، والأخرى التي ما زالت المتخيلات الاجتماعية والرأسمال الثقافي المترسخ في هويتها وشخصيتها، تقدم نماذج البعض منها نجح في الجمع بين الرأسمال الثقافي وبين العصر، والآخر يقترب من سلم النجاح والثالث ما زال يراوح ويجتر نفسه.
في المجتمع الصناعي تلعب القوة العاملة الدور الملحوظ في تقدم المجتمع أو تأخره. وهذا يرجع إلى مجموعة من المحفزات والثقافات والتجارب التي تقدمها هذه الحضارة أو تلك. كما إن المقارنات بين ثقافات العمل والادارة تبقى خاضعة بدورها لخصوصية الجيوبولتيك والحقبة التاريخية.
فالمقاربة الروسية لنظام العمل والادارة تنظر إليها العقلية المنغولية أو الأوزبكية أو الطاجاكسية بأنها عقلية غربية، بينما الرؤية الالمانية أو الفرنسية أو الاميركية أو حتى اليابانية، تنظر إلى العقلية الروسية في نظام العمل والادارة بأنها شرقية ما قبل حداثية.
لقد أجرى العالم الياباني الاختصاصي في الشأن الروسي، البروفسور خاكامادا س. (20) دراسة مقارنة حول التركيبة الاجتماعية – النفسية لليابانيين والروس وخلص إلى مجموعة من الاستنتاجات يمكن تلخيصها على الشكل التالي :
الاول : في كل من روسيا واليابان ما زالت المشاعر الانسانية الطبيعية والتمنيات تحتل مكانة مميزة في الشخصية الحضارية لكل منهما.
الثاني : المشاعر والتمنيات كان لها دورًا إيجابيًا في اليابان. في حين إن العكس ظهر في روسيا، ولم يكن مرد ذلك في روسيا إلى التجربة الشيوعية الاقتصادية المعروفة، بل أيضًا إلى حالة الفوضى والمصاعب الراهنة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
الثالث : لقد تمكن الاقتصاد الياباني من تطوير مجمل الآليات الاجتماعية التي ساعدت على نهضته، مع الحفاظ على البنية السوسيونفسية لطاقته العاملة.
الرابع : إن المدى الجغرافي الياباني المنفتح على البحار والمحيطات جعله مكشوفًا للكل، ودفعه من جهة أخرى لكي يشتغل على تحسين أدائه الحياتي في الاقتصاد وفي السلوكية الاجتماعية بين الناس، وفي الانكباب على حب العمل والتركيز على التفاصيل وصغائر الأمور. وهذه سمات لا بد منها لكي يكون نظام السوق ناجحًا.
الخامس :المصاعب الروسية في هذه المجالات مردها حسب رأي خاكامادا إلى فلتان التصورات الاجتماعية والنفسية وعدم التمكن من ضبطها بشكل عقلاني. فالقدرة الروسية على مراقبة نظام العمل والتسيير العقلاني والعادل لإدارة المكان، عادة ما كانت ضعيفة، رغم قوة الامساك في السلطة المركزية، وقوة الشكيمة العسكرية للروس والانضباط الايماني في العقيدة الدينية الرثوذكسية.
السادس :إن الروسي لا يقوم بعمله بالشكل المطلوب، إلا إذا أصدرت له الأوامر بذلك. فإذا تلقى الأمر يتمكن من أن يحافظ على النظام وأن يزرع الحقل، ويسير المصنع، ويشغل المكتب، ويدير المؤسسة الحكومية. وإذا غابت الأوامر وأنظمة الرقابة فإن العمل والإدارة عادة ما تتلكأ ويغيب عنها النظام.
السابع : وبسبب ما تقول به الأمثولة الروسية "السيء لا يحدث بدون حضور الخير" فإن غياب العقلية الروسية الناجحة والدينامية في تسيير نظام العمل والادارة، فإن الجوانب الأخرى ومقارنة مع اليابان، والكلام والاستنتاجات لخاكامادا (الياباني) فإن العقلية الروسية أنتجت نخبًا علمية وفنية وأدبية عملاقة لم تستطع اليابان أن تقدم مثيلاً لها.
الثامن : العقلية اليابانية ترتكز على مشاعر عالية من الانضباط والتنظيم والدقة في العمل، الأمر الذي جعلها تتفوق في ميدان الأعمال وأن لا تكون على هذا المستوى في ميدان الابداعات الفنية والانسانية الأخرى.
هذه المقارنة التي تعكس جوانب عديدة من حقائق المكونات الذهنية والعملية للأمور، إلا إنها تجحف بحق الجانب الذي يحضر فيه بقوة الاحساس بالمسؤولية والنظام والابداع والقدرة على التجديد في نظام العمل والعلم والانسانيات والفنون في الحاضرة الروسية. فالباحثان الروسيان فيدوتوف وكليوتشيفسكي (21) يؤكدان على إن المجموعة السلافية الأرثوذكسية نفسها, التي عادة ما يتم انتقاد عقيدتها الاقتصادية والاجتماعية، أعطت في تاريخها نماذج ناجحة لا بل متفوقة من العلاقة الممجدة للعمل كقيمة انسانية. ومن ادارة المكان بشكل مقبول. ويتوقفون عند تجارب هذه المجموعة في القرن الخامس عشر والسادس عشر، وعند الحالات التي جعلت هذه المجموعة تمتد بنجاح على أوسع رقعة جغرافية على الأرض وأن تقيم عليها نوعًا من الاقتصاد المعقول في أماكن ومناخات غير معقولة.
مقارنة ومقاربة أخرى قام بها عدد من العلماء الأميركيين وحاولوا أن يبينوا العديد من النقاط المشتركة التي تجمع الذهنية الاقتصادية الأميركية والروسية. ونتوقف عند دراستين أجراهما كل من الباحث لويس في عام 1999 وبيكر في عام 1996 (22).
صورة الانسان الروسي كرجل أعمال وكإداري وكعامل وكتركيبة نفسية وقومية خاصة, ومثيله الأميركي تجمعهما حسب لويس التوجس من الروح الارستقراطية التي تزدري في عالم لاوعيها العمل العضلي، والتي تحرص في كلامها اليومي على خطاب لغوي منمق وعلى شكلانية ظواهرية طاووسية، وهذا ما يدخل الغربة لا بل القرف الداخلي عند كل من الأميركيين والروس معًا. ولويس يغمز هنا من باب نقده للثقافة الجمالية الشكلانية عند الأوروبيين القدماء. ويعرض مجموعة من السمات السلوكية المشتركة الأخرى كالبساطة في التعامل مع البشر والأشياء. وهذا ما يلمسه المرء بشكل جلي في كل من يكاترنبورغ الروسية واوتشينو الأميركية. الروس والأميركيون يفكرون بشكل شمولي وبمنطق الاستناد إلى روح عظمة الدولة التي ينتمون إليها، كما هو الأمر أيضًا عند الفرنسيين ولكل من البلدين إحساس بأن هناك رسالة تبشيرية إنسانية ملقاة على عاتقهما حيال العلاقات بين الدول.
فإلى جانب هذه السمات المشتركة هناك العديد من نقاط التمايز التي تجعل العقلية الروسية مختلفة عن العقلية الأميركية. إلا إن هذا لا يمنع كما يظن لويس من التعاون في الاقتصاد والسياسة وتنظيم العلاقات بين الحضارات. فالذهنية الروسية الشديدة التمسك بالجوانب الأكسيولوجية في الشخصية الإنسانية، نجد أن ممثليها وأبطالها يتميزون بالعراقة والجمالية والفن والبساطة والوداعة، في حين ان جوانب أخرى من هذه الشخصية مليئة بالأحاجي والتناقضات وانتظار المفاجآت وهذا أمر يستدعي الانتباه و الحذر الدائمين .
أما بيكر فيضيف بدوره مجموعة من الملاحظات التي تستدعي الاهتمام حول نمط تفكير وسلوكية الروس. فيجري بعض المقارنات بين العقليتين الروسية والأميركية. فالأميركيون حسب رأيه ميالون إلى المصارحة المكشوفة والثقة في العلاقات الجديدة وذلك إلى المرحلة التي يقوم شخص ما بعمل يخيب الظن ويجعل الثقة في غير موضعها. والروس ميالون إلى الحذر الشديد, فهم يقيمون كل خطوة، قبل أن يقتنعوا فيها، وذلك قبل أن يعطوا ثقتهم المطلقة بالشخص أو الطرف الذي يتعاملون معه. الأميركيون ميالون لأن يقودوا شبكة أعمالهم استنادًا إلى هدف مرسوم ومدروس... والروس ميالون لإقامة علاقات صداقة بالاستناد إلى المبادئ التي يتقاسمونها وأيضًا إلى القيم والنظرات، كما هي الأمور على مستوى الراحة المطلوبة بين العلاقات الشخصية. ففي المرحلة السوفياتية كان يجري التركيز في ثقافة العمل وفي إدارة المجتمع على طبيعة العلاقة بين القوى العاملة وليس على المهارات والكفاءات المطلوبة. ويتابع بيكر واصفًا التصورات والسلوكيات الروسية والأميركية في نظام العمل والانتاج ليخلص إلى استنتاج مفاده بأنه، ليس من الصعوبة بمكان أن تكون في المستقبل إمكانية التمازج والتفاعل بين التجربتين الأميركية والروسية و كأنها من رابع المستحيلات، بل على العكس من ذلك فإن المقاربة العقلانية بذهنية لا تتحكم فيها الأفكار المسبقة، قد تسهل الكثير من المسائل وتجعل الظروف مهيأة لتعاون وشراكة معينة في أكثر من ميدان.
ولكي نكمل هذه المقارنات نقدم هذه الخارطة التي تحاول توصيف النقاط المشتركة والأخرى المتمايزة بين العقلية الروسية والعقليات الأميركية واليابانية والأوروبية الغربية.
المتأمل في هذه اللوحة التي تحاول عكس بعض جوانب التقارب والكثير من نقاط التمايز بين العقلية العملية والنظرية الروسية والعقليات الأخرى لا يدفعنا بطبيعة الأمر للتعميم. لأن في التعميم يقع المرء في مصيدة العائق الإبيستمولوجي الذي يحول دون الغوص في الجوانب الأخرى من مكوّنات هذه العقلية أو تلك. وبالتالي لا يسمح بإعطاء لوحة شمولية معمقة عن الظاهر والباطن في هذه الذهنية أو تلك.
إلا إن مجموعة من السمات العامة المتعلقة بالفكر الاقتصادي والسياسي وبالسلوكيات الذهنية والعملية، تلك التي تلوّن المشهد الثقافي العام لهذه الشخصية الحضارية أو تلك، تجعلنا لا نبتعد في مغامرة البحث عن مكونات الحضارة، إلى حد الخروج عن المقاربة العلمية للأمور. فالعقلية الاقتصادية الروسية ومعها مجمل أنماط تفكيرها وسلوكياتها، تقدم الكثير من التصورات والتجارب، التي تجعل منها عقلية متمايزة فعلاً عن غيرها وتجعل حضورها قوي جدًا هنا وضعيف جدًا هناك. تلك هي معادلة المتناقضات في الشخصية الحضارية الروسية.
ففي ميادين الفنون والآداب وفتوحات الأرض والفضاء نجد العقلية الروسية متفوقة، باهرة وخلابة، وفي إدارة الاقتصاد والسياسة نلمس الكثير من النقاط الضعيفة والمناطق المعتمة. وكأن قدر الحضارة الروسية هي السباح في المخيلات المبدعة وفي خيال الطروحات الطوباوية وفي الشغف في الرسالات والمشاريع الكبرى، بينما أمور الدنيا ورخاء الناس المادي تبدو وكأنها ما زالت حتى الآن مهمشة.
فروسيا صاحبة القوة العسكرية النووية الجبارة، وعقلها العلمي الذي يقدم الاختراعات الكبرى والصغرى ما تزال عاجزة عن الدخول بقوة في عصر الحداثة، وما يزال حضورها الاقتصادي دون الحد الأدنى في مسيرة العولمة. تاريخها مليء بالانجازات والهزائم، وحاضرها كذلك. بينما مستقبلها يبقى في دائرة المجهول.
__________________________________________________
الهوامش
15- Inkeles, Smith, 1985; Inkeles, 1978, Inkeles, Diamond, 1980.
16- Hofstede, 1980; Goskov, 1988; Salk, 2000; Sobshik, 1997; Haymov, 1996; Laura, 2000; Merige, 2000; Murphy, 1999; Veiga, 2000.
17- بيفافوروفا وفورسوفا، السلطة الاقتصادية في روسيا، موسكو 1999، ص 188-189.
18- المرجع السابق، ص 182.
19- كلوتشكوفسكي ف. التاريخ الروسي، موسكو 1956، ص 314.
20- راجع مجلة "العلوم الاجتماعية والعصر"، عدد 1، موسكو 2003، ص 43.
21- المرجع السابق، ص 44.
22- المرجع السابق، ص 45.
(*) ارتأينا في هذا الباب من المراجع أن لا نشير بدقة إلى الصفحة، لأن الكلام عن هذه السمة العامة أو ذاك كانت عادة ما تتكرر كثيرًا في هذا المرجع أو ذاك.
16 نوفمبر . 1 دقيقة قراءة