02 يناير . 3 دقائق قراءة . 533
لم تكن اللغة العربية بالنسبة لي مادةً هامشية أو إحدى المواد العامة المفروضة على طلاب السنوات الأولى في الجامعة على الإطلاق، بالرغم من أنَّ أيةَ لغةٍ لاتينية الأصل، بل حتى اللاتينية القديمة، كانت لتكونَ أكثر جدوى كمادةِ لغة في الفرع الذي أدرسه.
كنت أجدني أكرس للغة العربية، عن كل طيب خاطر، وقتاً يعادل ذاك الذي أكرسه للرياضيات والفيزياء، ولربما أكثر منه بقليل، إذ كانت مناهج الرياضيات والفيزياء ترجمات عرجاء عفا عنها الزمان عن مناهج أجنبية، وكنت أجد في تمرينات اللغة العربية رياضةً ذهنيةً لا تقلُّ تحفيزاً فكرياً عن ذاك المرجو من تمارين الفيزياء والرياضيات.
لم يكن أحدٌ من أقراني يشاطرني هذا الانطباع، بل لعلني كنت لأغدو محطّ سخريةٍ -وما من جديدٍ في هذا- لو شاركتُهُ أحداً منهم، أو لو شاركتهم أني أقتني كتاب المادة أصلاً!... وأني أقرأ منه!... وأني لم أنتظر حلول ليلة الامتحان لتنقر "عصفورةٌ" زجاج نافذتي جالبةً لي بعضاً من أسئلة اليوم التالي، أو ربما كلَّها، جرياً على عادةٍ لم تتكشف لي إلا بعد أن آليتُ على نفسي حجز تذكرة مغادرةٍ، بلا عودة، من هذا الصرح التعليمي. لذا آثرتُ أن أحتفظ بهذا السرّ لذاتي، حالُه حال غيره من أسراري الكثيرة الخاصة.
إقرأ أيضا : فيروز في عاصمة الثقافة
لا أذكر أني عدتُ من امتحانٍ على مدى سنوات دراستي الجامعية مرتاحةً "لِما كتبت" كراحتي حين عودتي من أول وآخر امتحان لغةٍ عربية لي على مقاعد الجامعة، إذ كان الامتحان الوحيد غير الخاضع لنظام التقييم الأمريكي القائم على مبدأ الأسئلة ذات الإجابات متعددة الخيارات. نعم، لم نسلم من اللمسات الأمريكية المباركة حتى في أسئلة امتحاناتنا! ويا ليت أمريكا أتمت معروفها ودربت متبنّي طرائقها من واضعي المناهج والأسئلة على المهارات اللازمة لذلك. لقد جرّدَنا الاتباع الأعمى للأنظمة الأمريكية "المتطورة" في مختلف مناحي الحياة من الكثير الكثير، ولم يكن أعظمَه، ولن يكون آخرَه، تجريد التلميذ من "حق" التعبير على الورق، تجريده من حقه بقدرٍ من وقت أستاذه لتقييم ما كتب، ليصبح مآل ما حصّله التلميذ من معارف وما اكتسبه من مهارات محض بياناتٍ تُلقَّم لآلةٍ كأنف أبو كلبشة، لا تخطئ، بل تملك وحدها مقاليد مصيره ومستقبله. أوليس في هذا تجريدٌ من الإنسانية ضمن الإطار الإبداعيّ للكلمة؟!
إقرأ أيضا : قصرٌ من ورق
عدتُ من امتحان اللغة العربية ذاك اليوم مسرعةً لأتحقق من صواب إجاباتي من جدتي، كما جرت العادة طيلة سنوات دراستي، ومع الجواب الأخير تبسمتُ وكلّي رضىً جافاني بعدها عقداً من الزمن. غير أني شعرتُ لحظتها بحزن الفراق. لقد أنذرَت تلك اللحظة، أو هكذا اعتقدتُ، بنهاية العلاقة التي لطالما قامت على التحدي والندية مع صديقتي اللغة العربية. لن أخوض معها في المدى المنظور أيّ تحدٍّ لإيجاد خبرٍ لمبتدَأ ورد قبل بيتي شعر أو ثلاثة، أو في إيجاد علة المنع من الصرف، أو تأويل الضمائر (بالمناسبة، مخطئٌ من يعتقد أنْ ما من تطبيقٍ لذلك في الحياة العملية، إذ إنّ لتأويلِ "الضمائر" والكلام وحده تطبيقاتٍ لا تُعَدّ).
لم يبقَ لي اليوم من زملاء مقعد الدراسة سوى "اللغة العربية". هي وحدها من حَفِظَ الودَّ وطيب العِشرة، هي وحدها من لم يطعن في الظهر، وهي وحدها الأصيلة التي لم تخُنّي كلماتها في أصعب المواقف التي مررتُ بها، في وقتٍ خانتني فيه كل الكلمات بكل اللغات وأنا أتلقى رشقاتٍ من سهامِ من لم يشفع لي إتقان لغتهم ليقبلوني بينهم.