17 أغسطس . 8 دقائق قراءة . 1444
وصلْتُ مبكّرًا لقيادة فصل التأمل في سجن منخفض الحراسة. كان هناك رجل لم أره من قبل ينتظر ليتحدث إليّ، كان رجلًا عملاقًا كثيف الشعر واللحية وذراعاه موشومان، لقد أخبرتني الندوب الظاهرة على وجهه أنه خاض الكثير من المعارك العنيفة. لقد بدا لي مخيفًا لدرجة أنني تساءلت في نفسي مستغربًا عن سبب قدومه إلى صفّ التأمل؛ فهو لم يكن يبدو من هذا النوع. لكنني كنت مخطئًا، بطبيعة الحال.
أخبرني أن شيئًا ما قد حدث قبل أيام قليلة قد أخافَه. عندما بدأ يتحدث، لاحظْتُ لهجته الغليظة؛ فهي لهجة ألستر(Ulster). لإعطائي بعض المعلومات الأساسية، أخبرني أنه نشأ في شوارع بلفاست (Belfast) العنيفة؛ حيث تعرَّض لأول طعنة في حياته عندما كان في السابعة من عمره؛ وذلك حين طالبه أحد الطلاب المتنمّرين في المدرسة بالمال الذي بحوزته لتناول طعام الغداء، إلّا أنه أجاب بِـ "لا"؛ فما كان من الصبي الأكبر إلّا أن أخرج سكينًا وطلب المال مرة أخرى. كان يعتقد أن ذلك مجرد حيلة ليعطيه المال؛ فأجاب بِـ "لا" مرة أخرى. وفي المرة الثالثة، لم يطلب منه الفتى شيئًا، بل أدخل السكين في ذراع الطفل البالغ من العمر سبع سنوات، وسحبها وانصرف بعيدًا.
أخبرني أنه ركض مصدومًا من باحة المدرسة، والدماء تسيل على ذراعه، وتوجّه إلى منزل والده القريب. ألقى والده العاطل عن العمل نظرة واحدة على الجرح وقاد ابنه إلى المطبخ، ولكن ليس لتضميد الجرح، بل فتح الأب درْجًا، وأخرج منه سكينًا كبيرًا، وأعطاه لابنه، وأمره بالعودة إلى المدرسة وطعْن الصبي.
هكذا نشأ وترعرع، وإذا لم يكن قد كبُر بهذه القوة؛ لكان قد مات منذ زمن طويل.
كانت للسجن مزرعة حيث يمكن للسجناء المؤقتين، أو السجناء لفترات طويلة على وشك الإفراج عنهم، أن يكونوا مستعدين للحياة في الخارج؛ وذلك من خلال إكسابهم الخبرة في مهنة صناعة الزراعة والمتاجَرة بها. علاوة على ذلك، فإن المنتجات من مزرعة السجن ستزود جميع السجون الواقعة حول ﭘـيرث (Perth) بطعام رخيص الثمن؛ ممّا سيؤدي إلى خفض التكاليف. تربّي المزارع الأسترالية الأبقار والأغنام والخنازير، وهي ليست مخصّصة لزراعة القمح والخضروات فقط، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مزرعة السجن. ولكن على عكس المزارع الأخرى، كان لمزرعة السجن مسلخ خاص بها في المكان نفسه.
كان على كل سجين أن يعمل في مزرعة السجن، وقد أبلغَني العديد من النزلاء أن وظائف المسلخ هي أكثر الوظائف المرغوبة؛ إذ كانت هذه الوظائف شائعة بشكل خاص بين المجرمين العنيفين. وكانت الوظيفة الأكثر طلبًا على الإطلاق، والتي كان عليك القتال من أجلها، هي وظيفة الذبح نفسه. وقد كان ذلك الإيرلندي العملاق والمخيف هو الجزار.
وصَف المسلخ لي بدقّة: سرداب فولاذي قوي للغاية، عريض عند الفتحة، ضيّق إلى قناة واحدة داخل المبنى، إنه عريض بما يكفي لمرور حيوان واحد فقط عبرَه في المرة الواحدة. بجانب القناة الضيقة، المرتفعة على منصة، كان يقف حاملًا البندقية الكهربائية. وسيتم إكراه الأبقار أو الخنازير أو الأغنام على التواجُد في السرداب الفولاذي، وذلك عبر وخْزهم أو باستخدام الكلاب. قال إنهم سيصرخون دائمًا، كل على طريقته الخاصة، محاولين الهرب؛ إذ يمكنهم شمّ رائحة الموت وسماع صوته والشعور به. عندما كان حيوان بجانب منصته، كان يتلوى ويترنّح ويئنّ. وعلى الرغم من أن بندقيته يمكن أن تقتل ثورًا كبيرًا بطلقة واحدة، إلّا أن الحيوان لن يقف ساكنًا بما يكفي ليتمكن من التصويب عليه بشكل صحيح. لذلك كانت هناك طلقتان، واحدة للترويع، وأخرى للقتل. طلقة واحدة للترويع، والطلقة الأخرى للقتل، وهكذا... حيوانًا بعد حيوان، ويومًا بعد يوم.
تصفّح أيضًا على منصّة مردادالقصص والتجارب ضمن فئات:
بدأ الرجل الإيرلندي يشعر بالإثارة عندما انتقل إلى الأمر إلى الحدوث حقيقةً، قبل أيام قليلة فقط، لدرجة أن ذلك أزعجه كثيرًا؛ فصار يقسم؛ ثمَّ ظلَّ يردد، "هذه هي الحقيقة والله!" كان خائفًا من أنني لن أصدقه.
في ذلك اليوم، احتاجوا لحومَ البقر للسجون حول ﭘـيرث(Perth). وكالمعتاد كانوا يقتلون الأبقار، بطلقة واحدة للترويع، وأخرى للقتل. لقد كان ذلك في يوم عادي من القتل، عندما ظهرت بقرة كما لو لم يرها من قبل. كانت هذه البقرة صامتة، ولم تصدِر حتى صوت أنين واحد. كان رأسها متجهًا نحو الأسفل وهي يمشي مرغَمةً ببطء إلى مكانها بجوار المنصة. لم تتلوَّ ولم تترنَّح أو تحاول الهرب.
بمجرد أن وصلت البقرة إلى مكانها، رفعت رأسها وحدّقت في جلّادها، بكل تأكيد.
لم يرَ الإيرلنديون أي شيء قريب من هذا من قبل. أمّا الرجل فقد كان عقله مخدَّرًا مع بعض الارتباك، لم يستطع رفع بندقيته، كما لم يستطع أن يرفع عينيه عن عيني البقرة؛ كانت البقرة تنظر إلى داخله وكأنها تحدّثه.
لقد انزلق في متاهات لامتناهية؛ لم يستطع إخباري بالوقت الذي استغرقه الأمر، لكن بينما كانت البقرة على اتصال به بالعين؛ لاحظ شيئًا يهزّه أكثر: الأبقار لها عيون كبيرة جدًّا، لقدرأى في عين البقرة اليسرى، فوق الجفن السفلي، رأى الماء قد بدأ في التجمُّع، ازدادت كمية الماء وازدادت، حتى باتت لا تتسع في الجفن؛ ثمَّ بدأ الماء يتقطر ببطء على طول خدها، مشكّلاً خطًا لامعًا من الدموع. كانت أبواب قلبه المغلقة منذ فترة طويلة تفتح ببطء. عندما نظر وكان في حالة من عدم التصديق، رأى في عين البقرة اليمنى أيضًا، فوق الجفن السفلي، المزيد من الماء يتجمع، ينمو في هذه اللحظة، حتى أصبح كذلك أكثر مما يمكن أن يحتويه الجفن؛ فتدفَّق تيار ثانٍ من الماء ببطء على وجهها؛ وحينها، انهار الرجل.
إنه الدمع؛ لقد كانت البقرة تبكي حقًّا.
أخبرني أنه ألقى بندقيته منذ ذلك اليوم، وأقسم إلى أقصى حدٍّ، وبكل ما يمكن أن يؤتى من قدرة على ضباط السجن، أن بإمكانهم فعْل ما يحلو لهم به، "لكن من دون أن يدعوا هذه البقرة تموت!".
وفي ختام قصته، انتهى بإخبارنا أنه نباتي الآن.
كانت تلك القصة حقيقية، وقد أكدها لي سجناء آخرون في مزرعة السجن؛ فالبقرة التي بكت وأبكت أحد أعنف الرجال، علّمته ما يعنيه الاهتمام/ ما تعنيه الرعاية.
ترجمة صفاء الشيخ
من كتاب: " Who ordered this truckload of dung " للراهب "آجان براهم"
13 مارس . 14 دقيقة قراءة