29 سبتمبر . 7 دقائق قراءة . 461
لاحظ ضابط الأمن أنّ البرودة بدأت تخيّم على علاقته بحبيبته، وأدرك أنّ مشاعرها تجاهه قد تبدّلت. حاول معرفة السّبب فلم ينجح. لم يبذل جهدًا في سبيل إعادة الحرارة إلى حبّها له؛ فموضوع أحمد عامر وأمثاله، كان شغله الشّاغل وفي سلّم أولويّاته في ذلك الحين، خاصّةً بعد قرارٍ اتّخذه "رئيسه" بتشديد الطّوق على المعارضين للحكم، فبدأت مرحلة جديدة من خنق الحريّات العامّة في البلاد، وطفت على سطح الحياة السياسيّة فضيحة إقدام أحد الأجهزة الأمنيّة على التنصّت على مخابرات واتّصالات العديد من رؤساء الأحزاب والنوّاب والسياسيّين ورجال الإعلام وغيرهم. كانت حملة خنق الحريّات هذه، شرسة؛ فخلال شهورٍ قليلة ستجري انتخاباتٌ نيابيّةٌ في لبنان، وستحدّد هذه الانتخابات مصير النّظام برمّته، فكان لا بدّ من البطش والضّرب بيدٍ من حديد كلّ ما يضعف هذا النّظام الذي يتقدّم بخطىً سريعةٍ نحو تصنيفه أمنيًّا.
أطلّ شهر تشرين الأوّل من ذلك العام حاملاً معه رسائل إرهابيّة. بدأت البلاد تعيش كابوسًا أمنيًّا بعد تفجيراتٍ عدّة وقعت في بعض الكنائس في مناطق مختلفة. كانت هذه الرّسائل تمهّد لكمّ أفواه العديد من المعارضين للحكم، وتعزيز دور الأجهزة الأمنيّة. لم يكن أحمد عامر بعيدًا عن مرمى هذه الأجهزة. ففي ذلك الشّهر أبلغ سمير حصرمي "رئيسه" بأنّ وسيلة النّصح والتّرغيب التي اتّبعها مع هذا الباحث لم تصل إلى نتيجة، فأبلغ "رئيسه" بدوره "سيادته" بذلك، الذي قال له باختصار:
- تصرّفوا..
فهم سمير و "رئيسه" معنى هذا الكلام. فوضعا اللّمسات الأخيرة على خطّةٍ كانا قد رسماها منذ فترةٍ لتطبيقها في حال بقي الباحث الأكاديمي مصرًّا على أسلوبه ورأيه، ولم يمضِ أسبوعٌ حتّى كانت هذه الخطّة تُنفّذ كما رُسم لها.
لقد اتُّخذ القرار بقتل الرّجل. لم يبقَ أمام الجهاز الأمني الذي يعمل فيه سمير إلاّ هذه الطّريقة لإسكاته نهائيًّا. أراد العقيد و"رئيسه" إظهار الأمر وكأنّه جريمةٌ عاديّة، لإبعاد الشّبهات وقطع الطّريق أمام الضّغوط المحليّة والكنديّة لكشف الفاعلين.
كان العقيد يملك كلّ المعلومات اللاّزمة لتنفيذ الخطّة، فهو يعرف جيّدًا طبيعة المبنى الذي يقطن فيه الباحث، ويعرف أنّه مبنى لا تُستخدم فيه كاميرات مراقبة، ولا يوجد عند مدخله بوّابٌ أو حارس، جلّ ما في الأمر وجود بوّابة حديديّة تبقى مقفلة ولا تُفتح إلاّ بواسطة أحد الأزرار الكهربائيّة من داخل شقّة من الشّقق التي يقصدها أحدهم، بعد التّعريف عن نفسه بواسطة "إنترفون" موجود قرب البوّابة من الخارج، أو تُفتح بمفتاحها من قبل أصحاب الشّقق الذين يملكون نسخًا عنها. كان ضابط الأمن قد جمع أيضًا، على مدى أسابيع، بعض المعلومات الدّقيقة عن تحرّكات الزّوجين "الكنديّين". علم أنّ الرّجل لا يغادر شقّته قبل العاشرة صباحًا إلاّ نادرًا، وأنّ زوجته تغادرها عند التّاسعة من كلّ صباحٍ برفقة خادمتها، وتتوجّه سيرًا على الأقدام نحو السّوق القريب للتبضّع وشراء الخضراوات والفاكهة، ولا تعود قبل ساعةٍ أو ساعتين.
أشرف سمير حصرمي شخصيًّا على تنفيذ الخطّة. انتظر حتى مغادرة "آنا" وخادمتها المبنى، فاتّصل هاتفيًّا بأحمد عامر، وقال له:
- آسف على إزعاجك دكتور، لكنّ الأمر مهمٌّ جدًّا ولا أستطيع التحدّث عبر الهاتف، لذا سأرسل شابًّا اسمه سامر، يحمل إليك رسالة، وأرجوك أن ترسل لي جوابًا معه. هو الآن في طريقه إليك، وقد يصل خلال عشر دقائق.
استغرب الباحث الاتّصال، لكنّه ظنّ أنّ من اعتبره صديقه، يريد تنبيهه إلى أمرٍ خطير.
لم تمضِ عشر دقائق إلاّ وكان جرس "الإنترفون" يدق. سأل "الدكتور" عن الشّخص الذي يقصده. أجابه باختصار:
- أنا سامر.
فتح له البوّابة. دفعها الشّاب بيده بعد أن استعان بمنديلٍ قماشي تفاديًا لترك بصماتٍ عليها. صعد إلى الطّابق حيث الشقّة المقصودة. استعان بالمنديل أيضًا خلال استخدامه المصعد. دقّ الباب، ففتح أحمد بسرعة. قال له الشّاب وهو يناوله مغلّفًا صغيرًا:
- صباح الخير. هذه رسالةٌ من العقيد سمير حصرمي.
أخذ الرّسالة على عجلٍ وطلب إلى الشّاب الدّخول. قرأها بسرعةٍ بالقرب من المدخل. عاد وطلب إلى حاملها الدّخول معه إلى المكتب. فعل، وعندما جلس خلف مكتبه، عاجله الشّاب بطلقةٍ ناريّةٍ من مسدّسٍ زوّده بكاتمٍ للصّوت، أتبعها بطلقةٍ أُخرى جعلت منه جثّةً هامدة خلال لحظات.
لم يغادر القاتل الشقّة بعد تنفيذه جريمته. غطّى يديه بقفّازين، واسترجع الرّسالة والمغلّف الصّغير ووضعهما في جيبه. قلّب في محتويات المكتب، ثمّ راح يفتّش عن جهاز أحمد الخلوي. وجده على طاولةٍ في غرفة الجلوس. أخذه، ثمّ دخل غرفة النّوم وراح يقلّب بمحتوياتها، وفتح أدراج الخزانة الموجودة فيها وأخذ المجوهرات والمال من داخلها. انتقل بعدها إلى غرفةٍ أُخرى، فأُخرى، وفي كلّ مرّة، كان يقلّب المحتويات ويضع في جيوبه بعض الأغراض التي يقلّ حجمها ويكون ثمنها مرتفعًا. انتهى من مهمّته بعد دقائق قليلة. غادر بهدوء، ولم يجد أيّة صعوبةٍ من مغادرته المبنى، كما لم ينسَ أن يمحو بصماته عن الباب الخارجي للشقّة قبل مغادرته.
استعاد سمير من القاتل الهاتف الخلوي فأخفاه لأنّه يشكّل الدّليل الحقيقي على المجرم، كما استعاد الرّسالة منه. كان قد كتب فيها:
"عزيزي الدكتور أحمد..
تحيّة طيّبة.
أنت تعلم أنّ مقالك الأخير قد تطرّق إلى معلوماتٍ خطيرة، وقد اطّلع عليها شخصٌ لديه مركزٌ مرموقٌ في الدّولة يهمّك أمره، وهو يودّ مقابلتك، فإذا كنت مستعدًّا لهذا الأمر، حدّد لي المكان والزّمان المناسبين".
كان ضابط الأمن يعلم أنّ هذه الرّسالة ستدفع "الدكتور" إلى الرّد عليها، وسيلجأ إلى مكتبه لكتابة الرّد. أراده أن يُقتل داخل المكتب، وتُسرق بعض الأغراض من الشقّة، كي يظنّ الجميع أنّ السّارق هو شخصٌ يعرف صاحبها جيّدًا، وقد يكون أحد الطلاّب الذين عرفهم، والدّليل أنّه اصطحبه إلى مكتبه، وأدخله شقّته برضاه.
اكتُشف مقتل أحمد عامر بعد عودة "آنا" وخادمتها من السّوق. حضرت قوى الأمن والمباحث إلى المكان. رُفعت البصمات وبدأ التّحقيق. كان كلّ شيءٍ يشير إلى عمليّة سرقة؛ ففقدان مجوهراتٍ وأموالٍ وأغراضٍ ثمينة من الشقّة، والفوضى التي كانت تعمّ فيها، كانت دليلاً واضحًا على السّرقة.
أجمع المحقّقون على أنّ القاتل يعرف المغدور جيّدًا، فوضعوا فرضيّاتٍ وأجروا تحقيقاتهم على أساسها. اعتبروا أنّ أحد الذين يعرفونه، وعلى الأرجح أن يكون طالبًا، اتّصل به قبل مقتله بقليل، أو كان على موعدٍ معه لسببٍ ما، لذلك لم تكن ثمّة آثارٌ لخلع الباب أو كسره؛ فالقتيل فتح الباب واصطحب القاتل إلى مكتبه لإنهاء عمله معه، وهناك، شهر هذا الأخير مسدّسه طالبًا إليه إعطاءه المال، لكنّه رفض، فأطلق الرّصاص عليه وقام هو بنفسه بالتّفتيش عن المال، فوجده ووجد بعض المجوهرات وأغراضًا صغيرة وثمينة، فسرقها، وعمل على محو بصماته، أو أنّه غطّى يديه بقفّازين لأنّه جاء إلى الشقّة مصمّمًا على السّرقة حتى لو اضطرّ للقتل. كما اعتبر المحقّقون أنّ القاتل قد يكون أحد الذين يتعاطون المخدّرات، وكان بأمسّ الحاجة إلى المال لشراء بعضها، فلم يجد طريقةً أسهل من سرقة شخصٍ يعرفه جيّدًا ويعرف عنه أنّه ميسور.
(يتبع)