10 ديسمبر . 4 دقائق قراءة . 736
الخامسة وعشر دقائق مساء
متقوقع على الأريكة ألف نفسي ببطانيتي درءاً لبرد لا أسلحة أخرى نواجهه بها، فأبدو للناظر كمومياء من الأسرة الفرعونية الثانية عشر.
أطل عبر النافذة نحو الخارج لأشهد الثواني الأخيرة من عمر النهار فيما يلملم أذياله على استحياء تاركاً الدفة لليل صاف يلمع في سمائه قمر خجول لم ينتصف بعد، تتلألأ في محيطه نجوم صغيرة متباعدة.
أنقر على شاشة هاتفي المحمول لأكتب هذه السطور، و من مشغل الموسيقى ينساب صوت نجاة علي عذباً تشدو أغنيتها الجميلة:
" فاكراك ومش حنساك .. مهما الزمن قساك
ولا نسيت حبي ..
وإن رحت مرة تزور .. عش الهوى المهجور
سلم على قلبي ..".
آه يا نجاة .. كثر هم الأشخاص الذين كتبوا سطوراً في دفتر حياتنا وغادرونا بقسوة ولا مبالاة .. سطور محفورة في ذاكرتنا نستدعيها من حين لآخر فنستدعي بالتبعية ذكرى أصحابها ..
أصدقاء وأحباء وأنسباء وزملاء ..
في ال playlist المفضلة عندي يا عزيزتي نجاة سوف تجدين زميلتك ميادة الحناوي تتغنى بنعمة النسيان .. ولكن هل تصدقين حتماً أننا قادرون على نسيان كل شيء وأن الزمن كفيل بذلك حقاً ؟!
هل تعلمين أن كل ذكرى نتمنى محوها تترسخ أكثر؟!
وهل تعلمين أن عقلنا الباطن القميء يحتفظ بتفاصيل كل الأشخاص الذين يتوجب بالفعل نسيانهم؟!
لو تابعتي البحث في الأغاني ستجدين كذلك أغنيتي المفضلة لميادة أيضاً .. ساعة زمن :
" كل واحد منا عنده ذكريات
يفتكرها ساعات وينساها ساعات
أما لو تسألوني
لو قلت مش ح تصدقوني
هي أحلى ذكريات
هي كل الذكريات
هي عمر العمر كله
يلي جاي ويلي فات
هي ساعة زمن من كام سنه
هي ساعة زمن حب وهنا
عشنا فيها زمن عشنا فيها زمن
هو .. هو هو .. هو وأنا ".
أشخاص غادرونا بخصام .. وآخرون فرقتنا الأيام بود .. تبقى ساعات زمن قضيناها معهم .. قد لا تعني لهم شيئاً .. إنما لنا هي كل شيء .. ساعات زمن عشناها بكل مشاعرنا وأحاسيسنا .. نوايانا الطيبة .. محبتنا الصادقة ..
ساعات زمن كانت غنية بتجارب رائعة، اختبرنا بعضها للمرة الأولى .. فكيف لنا أن ننساها؟!
حسناً .. على سيرة النسيان .. و قبل أن أنسى .. عزيزتي نجاة .. لا بد أن أجفف الأطباق وأعيدها لمكانها في الخزانة .. ثم أعد كوب شاي ساخن أدفئ به نفسي ..
طبعاً حيث أنت الآن في العالم الآخر .. لا ذكريات ولا نسيان ولا تنظيف أو تجفيف أطباق ..
على العموم كلنا قادمون عندك مهما طال العمر .. !
نجاة .. هل أخبرك سراً ؟! ..
كوب الشاي هذا الذي أحيطه بيدي الباردتين حتى تسرقان منه بعض الدفء .. رغم تفاهته للبعض .. غير أنه يثير زوبعة من الذكريات لدي .. المؤلمة والجميلة ..
مرة أعددت الشاي بكل حب، لشخص غالٍ وعزيز .. كنت أنتظر قدومه بشوق وكلي سعادة به ..
لم يأت .. ولم يأبه لمشاعري .. ولم يعر محبتي اهتماماً..
سكبت الشاي في الحوض .. لم أشرب فنجاني حتى ..
ذاك الشخص لم يعد في ال friends zone الآن بعد مواقف عديدة أزعجني بها .. لكني لم ولن أنساه .. لأني من أحببناه بصدق يبقى في بلازما الروح .. يترك أثراً .. سواء كان الأثر طيباً أم جرحاً !.
وللشاي أيضاً جلسات حميمة لا تُنسى، مع أحبة وأصدقاء، بعضهم ما زال جزءاً من يومياتي ، وآخرون أبعدتهم قسوة الحياة وظروفها، دون أن تقوى على محو ذكراهم اللطيفة.
نجاة ..
في كل زاوية من منزلي أو عملي .. في الشارع .. في الأزقة في الحوانيت .. مع كل وجبة طعام أو رغيف خبز ..
في الكتب والأغاني .. في السيارات .. وطبعاً في الصور ..!
في كل شيء ومن كل شيء قد تنبثق لنا ذكريات عصية على النسيان، تحمل معها حلاوة الحنين أو توقظ طعم المرارة.
حبيبك يا نجاة .. قساه الزمان
وحبيب ميادة .. مكتوب له _ يا بخته _ نعمة النسيان !
أنا .. وبعض أحبائي قسانا الزمان ..
لكنه حتماً لم يمنحني ترف النسيان.