حياة، موت، ثم حياة

شادي رزق

01 يناير  .   6 دقائق قراءة  .    938

بعد أن قررت التوقف عن الكتابة. أهداني صديقي شتلة زيتون صغيرة، كنت قد أوصيته عليها بحكم ثقتي بخبرته الزراعية، حيث كنّا عملنا معاً في الأرض حوالي خمس سنين متواصلة وتعلّمت منه الكثير.
زرعناها معاً في صَدرِ الحديقة، وثبتناها في الزاوية لتصبح هي ركن وملتقى النظر، هو بيده الخضراء المباركة، وأنا بدوري داعياً لها، وسقيتها ماءً مباركاً ما زلت احتفظ به كبركة من زيارتي لجبل آثوس في اليونان، حيث هناك الطبيعة تستقي من إناء نقي ممزوج بصدق الزارع والساقي.
على مدى عام ونصف كنت أعتني بها وأراقب نمّوها بدقّة لا متناهية، فكان يلفتني بشكل غريب وجميل سرعة النمو والحياة في أغصانها، فتيّة لون الخضرة فيها أشبه بالسحر، كنت أشعر بسعادتها ورضاها عن الحياة في حديقتي، كان لها أن تغتسل أسبوعياً، وكانت تميّز يوم العطلة الذي أقضي فيه معها وقتاً أطول.
تعمّقت صحبتنا بعد الجراحة التي ألزمتني الفراش قرابة الثلاثة أشهر، فكانت نزهتي للحراك والتمشّي قليلاً هي نحوها، كنت أرى كيف تستقبلني وإحساسها بألمي ومشقة بضع الخطوات التي أحتاجها للوصول إليها.
الروح التي تسكنها كانت تشعر بكل قصة أخبرها بها، تعلّمت الكثير من ردّات فعلها، من هدوئها، سكينتها، قدرتها على الإصغاء، وفي النهاية تعكس سلامها لي، متذكراً فراغية فحوى الحياة، في حين أنها تواصل نموها.
إلى أن حان موعد الفراق........
حين قررت الانتقال إلى منزل جديد، رأيت أن أتركها في زاويتها، في ذلك الركن الذي أصبح يحمل الكثير من الذكريات التي بسرعة أصبحت تُشكِّل تاريخ. ليتحول هذا التاريخ إلى حالة صراع داخلي تجعلني أشعر وكأن في داخلي شخصان، الأول يقنعني بضرورة تركها بمكانها وأهميته لها وارتباطي بها، والثاني الذي يؤرّقني كإبرة في صدغيَّ منادياً إياك أن تتركها، كيف لك ألّا تأخذها معك؟
غلب الأول الثاني، تركتها هناك، وتركت معها الكثير مما بيننا، كي أبرر لنفسي أني تركت لها ما يضمن بقاءها حيّة، وأن هذا سيقوي دافعي لأعود لأطمئن عليها، وأن العلاقات لا تُمحى ولا دور للمحسوس إنما للفكر والروح.
غلبني الذنب، وأرداني ضحية التبرير، فأحضرت أختاً لها في البيت الجديد، ووضعتها في منتصف الحديقة الجديدة، ومارست ذات العناية وصرت كل يوم أقضي ساعات في الحديقة الجديدة التي أصبحت أكثر من جميلة. كُلُّ ما أحضرته كان فيما قبل بمقتبل العمر، وبسرعة نضج وأثمر جمالاً سلامياً مبهجاً.
ولم أنسَ زيتونتي يوماً، كنت أعتني بها بذهني، إلى أن أرسلت لي رسالة. وأي غرابةٍ بأن ترسل النباتات أخباراً أو رسائل!! والرسالة مفادها كلمتان "تعالَ خذني". هذه الرسالة ذكرتني أنها لم تكن الأولى، فقبل حين أرسلت تطلب نفس الطلب ولكن بطريقة خجولة إيحائية، وكأنها استحت أن تقولها علناً، خشية أني نسيتها أو لم أعد أريدها.
أخبرت جميع الشتلات فرِحاً أن لهنّ أختاً كبيرة وهي آتية لتحيا معنا، تفتّحت أزهار الياسمينة والفلة والغاردينيا والجوري والزنبق وفاحت رائحة الريحانة الشابة وشمخ إكليل الجبل وأفرعت العريشة أوراقاً جدداً بعد عقم شهرين.
اشتريت لها حوضاً جديداً يليق بها، وعدنا لنلتقي بمكاننا، وهي تعلم في هذه المرة أنها ستذهب معي، حفرت الأرض حولها، ولم أشعر بمشقة استخراج جذورها فكانت بانتظاري والشوق يقيمها من ترابها. كانت تنحني وتميل تجاهي وكأنها تودُّ عناقي بأغصانها، وذاك اللون الأخضر على الأوراق الشابّاتِ يسعى لاختطاف قبلة مني بخجل وجرأة المراهقات.
خاطبتها سرّاً وأنا أداعبها وأفرد يديها وأصابعها، بأن تؤجّل شوقَ أيام الوحدة لنصل إلى بيتنا. ضبطنا حماستنا إلى حين، فكلٌّ منّا لديه الكثير ليخبر الآخر به.
ما هي لحظات إلّا ووصلنا، وكالعادة مباشرة أطعمتها وسقيتها وقمت بكل ما هو واجب ومتعارف عليه، وبالطبع أيضاً شربت من الماء المقدس كي تنعم بإقامة هانئة في المكان الجديد. وعدنا للكلام وتبادل القصص والدعابات المسلية. وكوني شعرت بخير ظننت أنها كذلك!
ما هي إلّا أيام وبدأت ألاحظ أنها ليست على ما يرام، أوراقها شحبت وبدأت تيبس، أغصانها مالت وعودها يجف، انتابني خوف شديد من فقدانها، جدد بداخلي أن حس الفقدان بعد هذه السنوات مازال فعّالاً بقعر تربتي.
لم أفكر بها، بل بما فعلت أنا، وهل أنقصت شيئاً أم قصّرت بشيء؟ وفي كل مرة أفكر بنفسي أكثر منها كانت تتسارع رحلة فقدانها، وكأنها مريض يذوي. ثم بصحوة قلب أو ربما ذهن، تذكرت صديقي، وأخبرته كل تفاصيل الحادثة، مطيلاً بخوف شرح الحادثة.
فأجاب مبتسماً وباختصار: "اخلع عنها أوراقها القديمة، وقلّم الأغصان وقلل عددها، واسقها جيداً". تألمت جداً حتى قررت أن بيدي أقص عناء حياة عامين، أوراق شاهدتها تنمو كطفل بين أبويه، واقطع بيدي غصناً كنت أنتظر ثماره بعد حين.
لم يمضِ الكثير حتى عادت تشبه حواء لحظة ولادتها في الفردوس، وأصبحت أرى الحوض كبيراً عليها، وشعرت بالرفض والغضب، ألم تنفع كل هذه الصحبة، ماذا عما شربته من ماءٍ مقدس، صلاتي لك لم تتجاوز ارتفاعك؟ ولم أجد ردّاً إلّا الصمت وشعوري بتوقف الحياة لكوني لا أرى انعكاسات.
لكني كنت موقناً أنني لن أقتلعها، كان لابد لهذا الصراع أن يأتي بنتيجة. وبقيت مع حيرتي وشكّي أمارس نفس الطقوس التي بيننا.
اليوم صباحاً، خرجت أتأملها وبكل تفاصيلها، أجل رأيتها تعود للحياة، في كل ما بتقى منها عشرات العُقَل كجنينٍ يتشبث برحم أمه يريد المجيء لأنه يعلم أنه سيضفي جمالاً على قباحة الكوكب غير آبهٍ لما ستشوّه فيه رداءة الكوكب. ويوماً بعد يوم أخذ هذا الجنين يكبر ويتجمَّل ويفرع حياة على نبض الأغصان الغضة. لا شيء يضاهي مراقبة إثمار المحبة. اليوم؛ عادت الطفلة التي شاخت مبكراً شابّة.
رحلة الزيتونة بين الحياة والموت والحياة، تشبه رحلتنا، فنحن نشبه ما نحب وكلُّ ما نحبّه يصبح يشبهنا.
هي لا تهتم بأنها تكبر بل يعنيها أنها تنمو. على سطح حديقتنا قصص حياة، وحياةٌ مليئة بالقصص. ويبقى ما لم يكتب أجمل، وما نفهمه من القصة جميل وما لم نفهمه أجمل. وأن المعاني ليست في جمالها بل في عيشها.

  3
  8
 2
مواضيع مشابهة

16 يوليو  .  1 دقيقة قراءة

  4
  8
 0

17 سبتمبر  .  3 دقائق قراءة

  1
  3
 0

25 أغسطس  .  2 دقيقة قراءة

  1
  4
 0

24 سبتمبر  .  5 دقائق قراءة

  3
  3
 0

19 أبريل  .  1 دقيقة قراءة

  0
  9
 0

12 يونيو  .  4 دقائق قراءة

  0
  2
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
عادل خالد الديري
19 ديسمبر
عن المحبة والفراق، عن اليأس والأمل، عن الوحدة والصحبة، يالها من رحلة ملحمية، شكرا شادي!
  0
  1
 
ألمى أبو سمرة
14 يناير
دفعتني هذه السطور بعمقها ورِقّتها وغزارة الإحساس فيها إلى كثير من التأمل والتفكير، والتفكير مجدداً ... وُفّقتَ جداً، شادي، بإيصال أفكارك بمنتهى الذكاء والبلاغة والإيجاز!
  0
  0
 1