01 يناير . 6 دقائق قراءة . 1095
وعند تحليقه عالياً وعالياً جداً، هرباً من تفاصيل الأرض وحباً بالشمولية
وتذوقاً للجمال، دخل طائر النسر في غيمة صيف هجرت تجمعها… وكان أثرُها فيه امتعاضاً وانتقاداً
لوجودها حين حجبت عنه الرؤية... ففاجأته بصوتٍ حنون وبلغة وعاها في قلبه: ألا
تعي شعور التقدير، إذ وضعني الخالق في طريقك لأحميك من لهيب الشمس الحارقة...
وفي حيرةٍ من أمره سألها الطائر:
- كيف لسحابة أن
تتكلّم وأفهمها...
فردّت عليه قائلة:
- في الكون لغة،
قلّة هم من يفهموها، ولكن يتحدث بها من نضج قلبه بالحب... ويفهمها حتى من خبّأ
الحب في قلبه... فهذه اللغة تخترق الحواجز، كالجاذبية الأرضية تماماً...
تغاضى الطائر عن الكلام في الحب ورد بجفاف جفاء؟ وتكبر:
- أولاً، لولا وجود الجاذبية لكانت سُمِّيَت كلّ
الكائنات باسمنا: طيوراً... ولكن الامتياز كان ويبقى لنا... وثانياً، كيف
لك أن تقّرري وتختاري حمايتي من الشمس، ألا تعلمين أن لي حرية وهبني إيّاها
الخالق... وأن في وجود الشمس طاقة تحييني وأنا الطائر الأقرب إليها، وفي غيابها
أذبل كوردة جفت منها مياه أمطارك...
- إن اختياري هو الحكمة التي تعلّمتها في الوجود، من
الأرض ومن السماء، من الخالق ومن المخلوق...
- عن أية حكمة تتكلّمين، وأنا الطائر المعروف بحدّة
نظري وبدقّة تركيزي، لم أعُد، بسبب وجودك، أرى أمامي سوى لوحة ضبابية أسير فيها
دون أن أتوقّع ماذا ينتظرني في النهاية أو الدرب التي سأسلكها...
- أن تسلّم نفسك إلى "طريق الحكمة" وتثق
بها لهو خيرٌ من أن تنظر إلى الطريق وتسير فيها دون ثقة وإرادة وعزم. هذه الطريق
تختارها العناية الإلهية، وتجسّدها عبر كائناتها... بمفهوم أدقّ، إنه تنظيم
الأحداث الذي يقدم الجديد لكل كائن، في السّماء وفي الأرض، إن هو وعى هدفه ولم
يرمِ الأحداث على الحظ أو الصدفة... وأن تثق بمن ينتشلك من حقل فيه الأشواك
طاغية، منها ما هو ظاهر ومنها ما تخبئه بعض الأوراق الخضراء الناعمة المضيئة،
ويرفعك فوقها، لخير من أن تقضي وقتك في البحث عن فسحة تثبت أقدامك عليها...
- وما علاقة ما تسمّيه " طريق
الحكمة " بوجودك؟!؟
- وجودي يختبر ويعزّز مفهوم ثقتك بهذه الطريق... وهي
التي ستسير عليها كائنات الأرض جميعها ويتوسطّها الإنسان حاملاً مشاعله... ألا
واعلم جيداً أن أحداث الحياة لا تدور إلا في فلكك، فأنت المحور وأنت الجاذب لها،
وما كانت إلا في سبيل المعرفة والخبرة الحياتية...
- أرى أنك تبالغين في تعقيد الأمور وفلسفتها، والحياة
لا تحتاج إلا للبساطة لنعيشها، فنكتفي باحتياجاتنا ونمضي في سبيلنا في عمرنا
الأرضي...
- هذا إن شئت أن تعيش على هامش الحياة، تهيم في
فضائها دون أن تفهم معناها فترميك في المحطة المقبلة... فقطار التطوّر لا ينتظر
المتخاذلين...
ضاع الطائر بين الكلمات، فبين محاولاته استعادة "أناه" والبحث
عن عنفوانه، وبين مواجهة المنطق السديد... بدأ يلين. وعندها قرر أن يستفسر ويفهم
ماذا تقصد به السحابة، فردت عليه قائلة:
- أما عن طريقة تحدثك إليّ، إليك ما تعلّمت من
الإنسان... ثلاثية: مكابرة - رفض - مواجهة... والمواجهة هنا ليست في سبيل
التعلم، بل تكمن في الدفاع عن نفسٍ متكابرة ترفض أن تُمَسّ بكلمة، حتى لو كانت
الحقيقة المطلقة... فكم من "كلا" تسمع يومياً وأنت المشهور بطاقاتك
وحواسك الخارقة... فحين رفضتني، كنت تدافع عن مكانتك، حيث تعتبر أن عرشك في
السماء لا يهتز... وهذا مثلٌ عن الإنسان، حين يواجَه بكلمات تتعلق بسلوك خاطئ،
يتصرف كالشخص الذي لا يتقن السباحة وترميه في حوض ماء فيجدّف شمالاً ويميناً
لينجو من الغرق...
الهدف دائماً وأبداً التعلم، خصوصاً ممن هم أوعى منا!! والتعلم هو
الدرب الأقصر الى التطور والدخول في صلب الحياة... أما عن "طريق
الحكمة"، فلا تنس كلمة حكيم من الأرض حين قال: " إن قرارات الله غامضة
لكنها تكون دوماً في صالحنا "...
- إذاً كيف أفهم ارتباط الحكمة بشعور
التقدير الذي حدثتني فيه فيما قبل؟
- إن الحكمة تكمن في وعي أهمية شعور التقدير، في تخطي
التجاذبات الداخلية التي تجعل من التقدير نسبي، يتماوج مع الرغبات... تماماً كما
كنت دائم التساؤل عن سبب التقلبات المناخية السريعة، فبين دقائق وأخرى تلتمس
بشرتك شعاع الشمس وقطرات المطر... وتماماً كما يشعر الإنسان على الأرض... فما
الظواهر الطبيعية إلا انعكاس لما يحتويه الإنسان...
- ولكن أعاني لأرتفع، فمع كل ضربة جناح في الهواء
ألم... أرى الشمس فأرغب أن أعانقها. أعشق الأعالي وأتوجه إليها، تفاجئني أمطار
لم أحسبها فتعيدني إلى الأسفل... أمسي حائراً، هل أطير عالياً أم التزم الأرض؟
وفي كلاهما خطر...
- إن الارتفاع ليس قرار، إنه واجب... والانخفاض ليس
ضعف، إنه وسيلة... فما بين ارتفاع وانخفاض، تَقدّم في مراحل على درب الصفاء
الدائم، حيث تتخطاني وتهيم فوقي وفوق كل ازدواجية... ففي الأعالي وحدة صامتة،
وفي صمتها أبلغ التعابير...
يمكنكم متابعة الحوار بالنقر على رابط "الجزء الثاني".
# حكمة #حوار #خيال #نسر #سحابة صيف