01 يناير . 8 دقائق قراءة . 1044
يمكنك العودة إلى الجزء الأول وقراءته بالنقر على رابط "الجزء الأول"
في هذه الأثناء، رانت لحظة سكون، كأنهما انتظرا أن تختمر هذه الكلمات في نفوسهما، وفيها أيضاً فرصة ليركّز النسر في الكلمات التي سمعها... وهو المعروف بحدة تركيزه وبنظره الثاقب، يطير حائراً في أمره، فهو للمرة الأولى ينقل هذا التركيز من الخارج إلى الداخل... وانطلق يسترجع الحوار الذي دار بين الطرفين وقبل أن يتكلم عن الحب، سألته سحابة الصيف بعتابٍ لطيف:
- أما زلت ممتعضاً من وجودي؟
- قد أبحث عنك في كل مكان، وقد أدخل الغيم وأخرجه لأتعلم منه أسرار الكون والحياة...
- لست بحاجة إليّ فقد أعطيتك سر الانطلاقة... جل في الأرض وتعلم من كل شيء، وكن كما قال الحكيم: "علامة استفهام متحركة "...
- هذا ما كنت أفعله لاوعياً مني أحياناً...
ومضت لحظات سكون، خرقها الطائر بسؤال جديد...
- لماذا أراك وحيدة في السماء، كروح فقدت أنيسها، أو كرجل لم يختمر بشعور الحب... إن في وحدتك ضعف وفي اتّحادك بتجمّع الغيوم قوة... أرى فيك عيون طائر أضاع سربه...
- أحببت التجوال وحدي، ورغبتي حققها لي خالقي... وصدق الرغبة يجترح المعجزات...
- قد أحبّ فيكم السير فراداً أكثر من تجمعكم. لقد سببتم، في توحدكم، هجرة لي، أهرب وسربي لنحتمي من البرد والعصف والشتاء... وإن واجهنا، حلّت علينا المآسي...
- لا بأس، ففي الهجرة تعلم، وفيها الانفتاح على الجديد، على محيط لم تألفه... وفي التأقلم فيه، وعي يُزاد إليك... وما أقسى نفسٍ حبست التجدد، فتمضي وقتها في عدّ أيامها... فالتجدد حياة، ومن خلاله تحارب خوفك المتراكم وقلقك رغم قوتك...
تداركت السحابة قساوة جوابها، خصوصاً عند رؤيتها للطائر وقد لاحت على وجهه أمارات الحزن... أحياناً كثيرة نشارك حقائق كبرى وقد نبرز معدلات الحياة المستعصية ولكن، ما هي أهميّتها إذا كانت أولوية الآخر مخالفة لموضوع كلماتنا... في هذا السياق، يُحكى عن متسوّل دخل على عالم جال أصقاع الأرض بحثاً عن المعرفة وامتلك بعض الحقائق، فراح يخبر المتسول عنها ويفيض في اكتشافاته في علم الفلك وحركة النجوم وغيرها...... لكن، هذا المتسول لم يكن ينتظر إلا بعض الطعام ليسد به جوعه... لذا أهميّة الكلمات تكمن في صوابيّة الموقف والمكان التي تصدر فيه... هذا ما تداركته السحابة، فعادت لتسأل الطائر عن سبب حزنه، وعن تجاربه ومآسيه... فأخبرها:
- في إحدى فترات فصل الشتاء، ضربت مكان تواجدنا عاصفة ثلجية قاسية جداً، وكنا أن قررنا مواجهتها، شريكتي وأنا، وبيضتين بانتظار أن يبصر النور منهما ولدينا... وكنا نسهر على حمايتهما من البرد ونتناوب على الاهتمام بهما... فمنا من يذهب لإحضار قوت يومنا والآخر ينتظر في العش الذي بنيناه فوق واحدة من أعلى الأشجار... ومع ازدياد العاصفة قساوة، غطت الثلوج الغابة والبلدات المجاورة، وكذلك عشّنا... وفي أحد الأيام، وفيما كنت عائداً من صيدي، لم أجد شريكتي في العش!!... رحت أبحث عنها، في السماء وعلى الأرض علّني أجدها... تارةً انتظر رجوعها، وطوراً أذهب للبحث... شعور غريب أحسسته في غيابها، كأنّ السماء، موطني الرحب، أصبح زنزانة مطبقة... وكأن الأرض، مصدر عيشي، يختزن في جوفه سر غياب شركتي... انتظرت، وانعكس الانتظار جفافاً في عروقي، فأصبح جناحيّ يأبيان التحرّك... وأصبحت بكل قواي، عبداً للوقت... شاركت في حينها الإنسان هذا الشعور... حتى هدأت العاصفة، وذهب كل كائن يتفقد اضراره... وفيما عدت للبحث عنها، نظرت إلى أسفل الشجرة وإذا بشيء أشبه بجناح قد طمرته الثلوج... حينها، لم أعد أشعر بوجودي، وكأنني دخلت في دوامة وفي إعصار وددت لو يرميني بلحظة خاطفة إلى الأرض... وكأن عشق الأعالي في داخلي قد انعدم، لأنجذب الأرض وأكتشف ما اختزنته، وما تحضره لي من ألم وفراق... فيما كانت العائلة بانتظار مولوديها، في تلك اللحظة ومن تلك العاصفة، فقدت الأم...... إذا كان الثلج رمز للنقاء على الأرض، فقد كانت شريكتي رمز للنقاء في السماء... فكما في السماء، كذلك على الأرض...
يصعب الفراق، لكنه القدر...
يصعب الألم ولكنه الحاجة...
تصعب الوحدة، ولكنها المآب...
حزنت السحابة كثيراً لسماعها هذه القصة الحزينة، وتأثرت بمجرياتها كونها شاركت بطريقة أو بأخرى بصنع المآسي على الأرض... أما مأساتها، فكانت هجرتها لباقي الغيوم والتفرّد في السماء، وهو السر الذي لم يكتشف سببه بعد ذلك الطائر الحزين... وبعد أن استعاد نفسه وعاد إلى الواقع، سألها مجدداً عن هذا السر، كون إجابتها الأولى لم تشفي ظمأه للأسرار والمعرفة. فجاوبته قائلة:
- أسير وحدي، أجول في الصحاري العذراء وأتعلّم من رمالها وأرطّب جفافها ببصيص أملٍ أراه في عيناي بدوياً التحف السماء وعانق التراب أملاً بعودة الحياة إليها... أجول في كل مكان، في المدن الآهلة كما في الغابات التي لم تطأها قدم إنسان... أسير وأرتطم بالجبال الشاهقة، أتلاشى بها، فتتوحد بها كل ذراتي، وأنتشي بشعور الارتباط بالطبيعة... ثم أنتفض من جديد كطائر الفينيق... ففي كل مكان خبرة جديدة، وفي كل لحظة حكمة انتزعها مما أراه...
بتعجب وتواضع ملك الطيور، يسأل عن هذا الطائر الذي لم يسمع به من قبل... وكان رد السحابة:
- ألديك الوقت لسماع أسطورة هذا الطائر؟
- بالطبع، فما أجمل من التحليق في السماء سوى سماع بلغة لا أتقنها، أسرار الكون وكلماتك الجميلة...
- الآن أصبح لديك الوقت إذاً.... قالتها بحنان وبمحبة لمن لم يرقه وجودها في الأول...
خجل الطائر من تصرفه وفرح من تجاوب السحابة وحبها للعطاء...
- إنها أسطورة الطائر الذي خرج من الجنة، من جمال لا يوصف، حيث اكتسب فيها الحكمة واتّجه إلى الأرض ليختبر فيها الحياة... وفي تجواله استوقفته رائحة اللبان والبخور الصنوبري المنبعثة من أعلى شجر الأرز في أجمل البلاد، في لبنان... فبنى عشه واستوطن فيه... ومنه كان ينشد أعذب الألحان ويتشارك وموسيقى الأفلاك نغماتها السماوية... أمّا حين اختلط بالحياة الأرضيّة لاحت أمامه صورة عذابات الناس وآلامهم... فشكلت هذه الأخيرة شرارة ناريّة انطلقت من الأرض لتمتد إلى عشّه فتحرقه، وبإرادته، تحوّل الطائر إلى رماد وكانت هذه النهاية...
وعند سماع النسر الكلمة الأخيرة، ظن أن فصل الحكاية قد انتهى، وأن الأسى في قلبه، عكسته أسطورة هذا الطائر... وقبل أن يغوص في تأمله، سمع كلمة: " بل البداية "... فاستغرب وانتظر الشرح...
- بل البداية... لأن إرادة العودة إلى الحياة كانت أقوى من الموت... ومن الرماد انتفض الفينيق مجدداً، ومنه انبعث إلى الحياة وفي روحه ذكرى آلاف السنين...
هذا الطائر الذي لم يره أحد، وسمع به الكثيرون، هو رمز العودة إلى الحياة بإرادة وصلابة... هو رمز الانبعاث من الموت إلى الحياة... هو رمز الحب والتضحية والمشاركة...
#حكمة #حوار #خيال #نسر #سحابة صيف #تفاهم #تناغم
22 فبراير . 6 دقائق قراءة
16 نوفمبر . 1 دقيقة قراءة