02 يناير . 6 دقائق قراءة . 673
إقرأ الأجزاء السابقة هنا: الجزء الأول - الجزء الثاني
لم تدرك باسمة حينها أنـّها إحدى المدرّسات الأربع اللّواتي قررّت الإدارة صرفهنّ من المدرسة. لم تعرف بذلك إلا ّ بعد عودتها إلى المنزل. جلست قرب أمّها وراحت تقرأ بصمتٍ وتوتّرٍ وخوف، الرّسالة التي أحضرها ساعي البريد صباحًا. أنهت قراءتها بسرعة وانفجرت دموعها من عينيها وسط حيرة أمّها التي راحت تسألها بقلق:
ماذا يوجد في الرّسالة يا ابنتي؟
مصيبة يا أمّي!..
مصيبة؟!.. ماذا تعنين؟!..
لقد صرفوني من المدرسة، وبتّ بلا عمل.
دُهشت السيّدة الضّريرة!.. سألت ابنتها الغارقة في البكاء:
لماذا؟!.. لماذا يا ابنتي؟
لا أدري يا أمّي!..
لا. هذا ظلم!.. يجب أن تتحدّثي إلى المدير.
أيّ مدير يا أمّي؟!.. فالرّسالة تحمل توقيعه. لم يكلـِّف خاطره لإبلاغي شفويّـًا.
لم تنهِ كلامها، حتى دقــّت "أمّ خليل" عصاها بالأرض لتدوّي كطلقةٍ ناريّة، وانتصبت واقفة، وصرخت بغضب:
حتى لو كانت تحمل بصمات أصابعه أيضًا، يجب التحدّث إليه، فهو يعرف حجم المسؤوليّات الملقاة على عاتقك.
نظرت الإبنة إليها والدّموع تغطـّي وجهها. زادت حسرتها؛ فكلام أمّها أيقظ آلامها الدّفينة، وأشعل ثورتها التي لا تخمد. وقبل أن تتفوّه بكلمة، اقتربت الأمّ منها وتحسّست وجهها المبلـّل، وأسندته إلى صدرها بعطف، وقالت لها برقـّة:
يجب أن تحدّثيه يا ابنتي. أنت بحاجةٍ إلى العمل، فحياة ثلاثة أشخاص مرتبطة بهذا الأمر، يجب أن تحدّثيه.
قالت ذلك وأطلقت العنان لدمعتين اخترقتا حاجز السّواد في عينيها، وتربّعتا بين الجفون، وتركت أصابع يدها اليسرى تتغلـّل في شعر ابنتها، كتغلّل العتمة في طرقات القرى الصّغيرة بعد غياب الشّمس.
مرّ ما تبقّى من اليوم حزينـًا في تلك الشقّة الصّغيرة الكائنة في أحد الأحياء المتواضعة في بيروت. "أمّ خليل" بقيت في غرفتها، وباسمة انزوت في غرفتها هي الأخرى، ولاذت في سريرها قبل أن تبدأ العتمة بممارسة دلالها عليه. حاولت النّوم فلم تستطع. بقيت كلمات أمّها الأخيرة تقرع باب أفكارها وتثقل رأسها كالكابوس، وكلـّما حاولت النّوم، كانت هذه الكلمات تتسلـّل إلى أذنيها وتهاجم جفونها، فتتصلب عيناها على جدارٍ أسود انتصب في الغرفة، وتتواتر في أذنيها كلمات الأمّ: "حياة ثلاثة أشخاص" ... "ثلاثة أشخاص" ... "ثلاثة أشخاص"...
لم تعرف الابنة متى استسلمت للنّوم، لكنّها نهضت في الصّباح باكرًا كعادتها، وانطلقت إلى المدرسة، وطلبت على الفور مقابلة المدير.
دقائق قليلة مرّت، ودخلت إلى مكتب مدير المدرسة لتسأله عن السّبب الذي دفعه إلى توقيفها عن العمل. أوضح لها أنّ القرار لا يعود إليه وحده؛ بل هو قرار مجلس الأمناء، فذكـّرته بالمسؤوليّات الملقاة على عاتقها، وقالت له:
أنت تعرف يا أستاذ وفيق مدى حاجتي إلى العمل. لقد اعتبرتك على الدّوام مثل أبي الذي حرمتني منه الحرب، وأنت تعلم ما أنا فيه، فإذا كنتم قد قرّرتم توقيفي عن العمل، فهذا يعني أنـّكم حكمتم عليّ بالإعدام.
*صدّقيني حاولت كثيرًا الوقوف إلى جانبك، لكن، ثمّة قرار من مجلس الأمناء بأن يكون جميع المدرّسين حملة شهادات جامعيّة، وأنتِ للأسف لم تكملي دراستك!.. فمدرستنا كما تعلمين من أهمّ المدارس الخاصّة في بيروت، والموضوع التّربوي فيها حسّاس جدًّا، فمع تقديري لمسؤوليّاتك إن كانت بالنّسبة الى حياتك أو حياة أمّك أو حياة...
قاطعته بتأثّر، وقالت:
كأنّك تقول لي أنّكم تريدون مدرّسين لديهم خبرة في التّعليم كخبرتي، وفي الوقت ذاته يتحضّرون للحصول على شهادة جامعيّة.
لم يفهم ما قالته، سألها بدهشة:
كيف؟!...
تستطيع أن تقنع مجلس الأمناء أنـّني أمتلك خبرة سبع سنوات، وحاصلة على شهادتي المهنيّة كحادقة أطفال، وسأبدأ هذا العام بالتّحضير لنيل شهادةٍ جامعيّة. لقد قرّرت يا أستاذ وفيق الالتحاق بالجامعة.
حدّق إليها والفرحة تغمره. بريق عينيه رسم ابتسامةً عريضةً على شفتيه. قال لها بفخر:
ذكيّة!.. هذا يسعدني. لم يخطر ببالي هذا الأمر، وأنا الآن متمسّكٌ بك أكثر من أيّ وقتٍ مضى، فاطمئنـّي. سأعرض هذا الاقتراح على مجلس الأمناء، وسأدافع عنك. أهلا ً بكِ في المدرسة مجدّدًا.
لم تصدّق ما سمعته. أربكتها الفرحة. نهضت وراحت تردّد كالأطفال:
شكرًا يا أستاذ وفيق... شكرًا حضرة المدير... شكرًا... شكرًا...
ثمّ غادرت ونظراته تلاحقها بإعجابٍ وفخر، حاملةً فرحتها إلى غرفة المدرّسين. لكنّ هذه الفرحة اختفت ملامحها عندما رأت المدرّسة الشابـّة زميلتها وصديقتها الوحيدة "أسمهان" غارقةً في البكاء. كانت هي الأخرى من بين اللّواتي صرفن من المدرسة.
حاولت التّخفيف عنها، فلم تفلح. شجّعتها على مراجعة المدير، ففعلت، لكنـّها لم تـُوفّق، وبقي قرار الصّرف ساريـًا عليها.
وعلى الرّغم من حزنها على صديقتها، فإنـّها كانت سعيدة. عبّرت عن ذلك أمام أمّها إثر رجوعها إلى المنزل، وهي تخبرها بقرار العودة إلى الجامعة. قالت لها:
أنا سعيدة يا أمّي، "وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم.."، فأنا منذ سنواتٍ يراودني حلم إكمال دراستي.
قالت لها الأمّ:
المهمّ أن تستطيعي الجمع بين مسؤوليّاتك في المدرسة وواجباتك في الجامعة، خاصّةً أنّ شهادتك الثانويّة حصلت عليها منذ عشر سنوات، وأنت الآن في الثّامنة والعشرين من عمرك.
- هذا ليس بالأمر المهمّ، ففصل الصّيف في بدايته، وسأعيد خلاله جمع معلوماتي الدراسيّة في المرحلة الثانويّة، وفي تشرين الأوّل سيبدأ الجدّ.
وبالنّسبة إلى دوام المدرسة؟
- سيبقى الأمر على ما هو عليه باختياري اختصاصًا يتناسب ومهنتي. سأنتسب إلى كليّة العلوم الإجتماعيّة، فهي من كلّيات الجامعة اللبنانيّة التي تفتح أبوابها خلال فترة بعد الظّهر.
لم تسترسل "أمّ خليل" في استفساراتها؛ بل راحت تطلب من الله أن يرعى ابنتها ويوفّقها. غمرتها الابنة، وقالت لها بحنان:
- أنا أدعو الله أيضًا أن يكون عمرك طويلاً، وأن تبقي متعافية وبصحّة جيّدة.
قالت لها الأمّ بحسرة:
- ليس المهمّ عمري وصحّـتي، الأهمّ هو عمر "هادي" وصحّـته، فهو أهمّ منـّا.
بكت الشابّة بصمت، وقالت:
- لقد سلـّمت أمرنا لله، والله كريم.
(يتبع)