01 يناير . 9 دقائق قراءة . 833
والسؤال هنا ما دور هذه المعطيات الأولية في التجربة الدينية؟
إن نقطة البداية في الدين هو المحسوس، أي الواقعة في أوسع مداها التي تشتمل على العاطفة مع الفكر، وقد تشمل أيضاً الإحساس الخفي بمشاركة في حياة الكون، فالدين في أساسه هو تجربة وأمر نحسه ونعيشه، إنه إحساس بتوافق تلقائي أو مجبول بين الإنسان وبين نفسه وهو في نفس الوقت إحساس بصلة الإنسان بموجود أعظم منه هو الذي يُحدث هذا التوافق، فالنشاط الديني الذي يميل إلى تزويد الشعور بوساطة اللاشعور، ولما كان اللاشعور يتميز في الشعور من أجل اللاشعورية فليس على علم النفس إلّا أن يسلّم بأن النفس الإنسانية في منطقتها اللاشعورية أن تتصل بكائنات بعضها أعظم منها، وهذه الكائنات كأنها معطاة للتجربة الدينية.
إذا سلمنا مع جيمس بأننا نشارك مشاركة لا شعورية في موجود أعظم منا نستطيع أن نسميه الله، أو الألوهية، وأنها تدخلنا بالفعل في عالم تتصل فيه الأرواح وتتفاعل لا من خارج وبوساطة ألفاظ وإشارات بل من الداخل وبدون واسطة لأنها شعور قوي غير منازع بحضور إلهي يمنحنا ما لم تكن لتوفره لنا وجودنا واستدلالاتنا، وعلى هذه التجربة تقوم العقائد الثلاث التي ترجع إليها الحياة الدينية وهي:
I. عقيدة أن العالم المنظور جزء من عالم غير منظور يمده بكل قيمه.
II. عقيدة أن غايات الإنسان الاتحاد بهذا العالم غير المنظور.
III. عقيدة الصلاة أي المشاركة مع الألوهية، فعل له أثر بالضرورة.
ويعد جيمس أن التجربة الدينية تتفق مع وقائع التجربة النفسية لأنها تدلنا على أن تحت المجال الضيق للشعور منطقة عميقة تستمر فيها الحياة الباطنية، ومن هذا التيار تطفر عواطف وإلهامات فجائية تبدو في الشعور، فهناك نوعاً عالياً مما تحت الشعور يرفع النفس فوق الحياة الجسمية إلى حياة روحية ممتنعة على العقل والإرادة.
إذاً في المنطقة اللاشعورية يتم الاتصال بيننا وبين الله وبين سائر النفوس وعلى هذا يلوح أن خصائص التجربة الصادقة تجتمع في التجربة الصوفية.
على أن الشك يظل ممكن إذ أن التجربة الصوفية شاذة فردية غير قابلة للتحقق بالملاحظة، والخروج من حالة الشك يكون بالخروج من الذاتية وإبراز حالات يكون فيها التصور هو الفعال لا الاعتقاد بالتصور، أي أن نوصل بين التجربة الدينية والتجربة النفسية وكذلك الفيزيقية بالمضي من فكرة حالة الأرواح وتفاعلها إلى ظاهرة فيزيقية محسوسة في المجتمع في الإحساس عن بعد وحضور الأرواح والتعاطف عن بعد وما عن ذلك من الشواهد.
وقد ذكر جيمس في كتابه تنوع أو أصناف التجربة الدينية، الخصائص المشتركة للتجربة الصوفية وهي
A. الاستعصاء عن التعبير: بمعنى أن هذه التجربة ذاتية وفردية خالصة وتمثل حالة من حالات الوعي المفارق والتي لا يمكن التعبير عنها أو وصفها بالكلام ونقلها للآخرين.
B. النسقية الفكرية: الأمر الطبيعي أن تتعارض معطيات الخبرة الصوفية وتجافي النسقية الفكرية من حيث أنها وعلى تنوع أنماطها وصورها حالات وجدانية عاطفية لا تقع في نطاق العلم، لأن العلم منهجه الاستقراء والخبرة الحسية لذا لا يمكن التحقق من صدقها، بينما الخبرة الصوفية تمد صاحبها بنوع من النسقية الفكرية، بل هي المعرفة اليقينية، لكن لا يمكن التصديق على هذه المعرفة النورانية وعليه الصوفية بمختلف بقاع الأرض وباختلاف الزمان فإنهم متفقون على جوهر التجربة.
C. اللحظية والتلقائية: ويراد بها الغياب للحظة المؤقتة للوعي والإدراك بالذات وبالاعتبار.
D. السلبية التامة: ويقصد بها أن السالك بالطريق الصوفي من حيث أنه معراج روحي صاعد، ورغم ما يبذله من جهد ومعاناة أثناء سيره المحفوف بالعقبات للارتقاء من مقام إلى آخر.
وقد ذكر جيمس في كتابه البراجماتية خاصية أخرى وهي:
E. التوحد بين الذات والموضوع: وهذه من أخص أوصاف التجربة الصوفية.
وهكذا يعد جيمس بأن أساس الدين تجربة وقد ربط بين التجربة الدينية والتجربة الصوفية أي بين العقيدة الأولى والتي هي أن العالم المنظور هو جزء من العالم الغير منظور والعقيد الثانية الاتحاد بهذا العالم الغير منظور عن طريق التجربة الصوفية.
مبيناً بذلك كيف أصبح الإيمان في التجربة الصوفية حدساً، كذلك يدخل في التجربة الدينية والعامة التي يرى فيها النمو المطابق لقوانين علم النفس العام، عناصر موجودة في كل فعل شعوري مباشر، ولو أن هذه العناصر تمر عادة دون أن تُلحظ. حيث يرى جيمس أن الإحساس بوجود أمر أو موضوع غير واقعي أو بالاتصال مع الكائنات فوق الطبيعية كما تعرفنا هذه الانطباعات بظروف هذه العاطفة وأحوالها، فهذه الانطباعات تدخل فيما يبدو في جملة الأوصاف الذاتية للاضطرابات النفسية والهلوسة. ويظهر أن جيمس نفسه لم يفهم منها أول الأمر إلّا هذه الدلالة، ومع ذلك فإنه شيئا فشيئاً عندما درس صور أسمى من حالات كبار الصوفية رأى أن هذه العاطفة تكاد تدل بذاتها على
وجود حقيقي موضوعي لكائن روحي مفارق للإنسان يتصل به عن طريق الشعور، فالشخص حين يستغرق كلياً في الإحساس بالاتصال مع اللامتناهي لا يميز قط بين الواقعي والوهمي فتكون انفعالاته في مثل هذه الظروف حقيقية، أو أنها ليست إلّا تلك الانفعالات المزعومة الكاذبة موضوعياً بالرغم من عمقها ووضوحها.
وقد ميز جيمس بين التجارب، فمنها الصادق ومنها الكاذب، لكن جيمس لا يدلنا على محك للتمييز، بل يقبل كل تجربة، حتى استحضار الأرواح باعتبارها تجربة قاطعة حيث يعد المعتقدات الميتافيزيقية ثابتة بالتجربة.
لكن ما يميز التجربة الدينية هي أنها أكثر التجارب مباشرة وحسية وسعة وعمق ونمو وعليه فإن أساس الدين أمر واقعي شخصي وليس الدين في ذاته الدين الواحد الثابت إلّا حقيقة مدروسة فارغة، لأن الدين لا يوجد إلّا مع وجود النفوس المتدينة والحياة الدينية، فهناك عدد من الأديان بمقدار ما يوجد من الأفراد فالسر الديني يتم داخل نفسه حين يمسه الضر يصيح طالباً العون فيسمع صوتاً يجيبه عن شجاعة لقد أنقذك إيمانك، والنفس الإنسانية منقسمة بالطبع على نفسها وعاجزة، فإذا اطمأنت وأضيفت إليها قوة لا يمكن أن تستمدها من ذاتها فإنما ذلك لأن موجود أعظم منها يعنيها.
أما عن كيفية تكوين فكرة وجود الله يصفها جيمس في كتابه (عالم متكسر)، بأنه يرى أن العالم قوامه كائنات كثيرة لا كائن واحد وأن المظهر الواحد من مظاهر الشيء المعين قد يكون جزء من الشيء الذي اصطلحنا أن نصفه بالمادية والموضوعية وأن يكون جزء من الإدراك الحسي الشخصي المدرك، ومن ثم فهو حالة من مجموع الحالات الشعورية لذلك الشخص وهي المجموعة التي اصطلحنا على أن نسميها عقلاً، فكذلك المدرك الحسي الواحد قد يكون حالة شعورية في أكثر من عقل واحد فالمدرك الحسي لأي شيء هو جزء من الحياة الشعورية لأي فرد من الناس، ويكون في الوقت نفسه جزء من الحياة الشعورية لعقل أشمل من عقل ذلك الفرد بحيث يشمل كل هذا العقل الفردي بجميع حالاته.
مضافاً إليه مدركات أخرى، وبالتالي يكون المدرك أو الفكرة حالة من حالات عقل أصغر وحالة من حالات عقل أكبر وبذلك يكون للفكرة الواحدة وضعان مختلفان، وعليه فالعالم كله محتوى في عقل واحد كبير، واحتواء الأدنى في الأعلى يشمل كل العقول الفردية، وبالتالي فإن أي إدراك من إدراكات العقول الفردية إدراكا في العقل الإلهي الشامل، وأن هذا الإله الذي هو عقل يشمل سائر العقول ليس منفصلاً عن الكون انفصال الخالق عن خلقه بل هو إله بينه وبين العقول الفردية قسط مشترك هو الاشتراك في الإدراكات بعينها، لكنه في نفس الوقت يتميز بفردية مستقلة كما يتميز كل فرد بفردية مستقلة وبذلك تتكون لدينا فكرة عن إله يختلف عن الفكرة التي تتحدث عنها الديانات التقليدية والفلسفات الآخذة بمبدأ وحدة الوجود.
أراد جيمس من فكرة العقول المتصاعدة أن يحتفظ لكل فرد إنساني بإرادته المستقلة (الإرادة الحرة)، فالإرادة الحرة هي التي تجعل القدرة لدى الإنسان لتغير ما هو كائن ليصبح أفضل مما هو أكمل.
إذن جيمس اعتبر العقل نمطاً من السلوك يعالج به الإنسان بيئته على نحو يعينه على الحياة فالدين ليس مجرد مثل عليا خاصة أو منهج خاص للتفكير إنما هو روح تسري في مواقف الإنسان كلها إزاء خبراته.
#سيكولوجيا_وليم_جيمس #وليم_جيمس #التجربة_الدينية #التجربة_الصوفية
03 فبراير . 5 دقائق قراءة
15 سبتمبر . 2 دقيقة قراءة