الغرفة السفليّة (الجزء الرابع)

05 يناير  .   6 دقائق قراءة  .    771

Photo by Kristijan Arsov on Unsplash

إقرأ الأجزاء السابقة هنا: الجزء الأول - الجزء الثاني - الجزء الثالث

مضى يومان آخران من عمر الزّمن، وأطلّ ثالث. كان اليوم الأخير في المدرسة التي تدرّس فيها باسمة، قبل المضي في الإجازة الصيفيّة. ذهبت ابنة الثّامنة والعشرين إلى مدرستها كالمعتاد. أنهت بعض الأعمال في قسم الرّوضة، ثمَّ  توجّهت نحو غرفة المدرّسين. فوجئت وهي ترى زميلها "رامز" يفتـّش في خزائن الغرفة!.. سألته:

هل أضعت شيئًا؟

فوجىء هو الآخر، ثم قال مبتسمًا:

بصراحة!.. أشتهي شرب فنجان قهوة، ويبدو أنّه لا يوجد بنّ في المطبخ، فخطر ببالي أنّ بعض الزميلات ربّما خبّـأن بعض البنّ في الخزائن.

قهقهت طويلاً، وقالت:

- لقد سبقتك وفتّشت الخزائن قبلك ولم أجد نثرة بنٍّ واحدة. يبدو أنّ ثمّة توارد أفكار في ما بيننا بهذا الشأن!..

*أتظنـّين أنّ توارد الأفكار يتعلـّق بالبنّ فقط؟

خجلت قليلاً، وقالت بهدوء:

- ربّما أكثر.

*في كلّ الأحوال، هذا آخر يومٍ في المدرسة، وقد أنهينا أعمالنا، فما رأيك بالذّهاب سويـًّا إلى مكانٍ قريبٍ وجميلٍ جدًّا لتناول القهوة؟

وافقته. لم يمض ِ وقتٌ طويل إلا ّ وكان الاثنان يجلسان في مقهى قريبٍ من المدرسة، وسط كوكبةٍ من الشّتل تسحر النّظر. جالت الشابّة بعينيها في المكان، وقالت لزميلها بفرح:

- فعلا ً، المكان جميلٌ جدًّا!..

*هو جميلٌ بناسه.

ابتسمت، وقالت:

- كأنـّك تغازلني؟!..

*نوعــًا ما.

ضحكت، وشاركها الضّحك، ثمّ قال :

*أنت الوحيدة التي تلفتين انتباهي بين زميلاتك.. كلّ شيءٍ فيك يلفت انتباهي: نشاطك، احترامك لنفسك، محبّـتك لزميلاتك، و... جمالك.

- لا!.. من المؤكـّد أنـّك تغازلني الآن.

*صحيح.

اقترب السّاقي منهما. طلبا القهوة. غادر لإحضارها، وعاد الاثنان إلى التحدّث. قالت له:

- أنت أمضيت سنةً تدرّس في المدرسة كمتعاقد، وعلى الرّغم من أنّني لم أكن أراك بشكلٍ دائم، ولكنّني لم أستطع إلا ّأن احترمك.

سألها ممازحًا:

*فقط ؟!..

- نوعًا ما.

غرقا مجدّدًا في الضّحك. مرّت لحظات، ثمّ ساد الصّمت. عاود الشّاب الحديث. طغت على كلماته سحابة من جدّية وحنان. قال لها: 

*حينما يصبح الرّجل في عمر الأربعين، يتفادى الحشو من الكلام، ويفضّل التطرّق إلى الموضوعات بشكلٍ مباشر.

- أيّة موضوعات؟!..

*بصراحة!.. أنت تعجبينني!.. وأنا.. لا أخفي عنكِ.. إنـّني مشروع زواج.

لم تخفِ صدمتها!.. سألته بدهشة:

- مشروع زواج؟!.. هكذا؟!.. "خبط لزق" ؟!.. دون أن تعرف عنّي شيئـًا؟!..

*يكفي أنـّني أعرف الكثير عن شخصيّتك، وبرأيي، الباقي يصبح تفصيلاً.

- لا.. أنا أخالفك الرّأي كليًّا، فالإعجاب شيء، والزّواج شيءٌ آخر، فهو ليس مجرّد إعجاب اثنين ببعضهما بعضًا؛ بل هو يمثّل انخراط الشابّة والشّاب في مجتمعٍ يظلّلهما سويًّا، وهو أقله، تفاعلٌ في ما بينهما ومع محيطهما، ثقافتهما، إمكانيّة عيشهما برفاهيّة، قدرتهما على تأمين حياتهما.. أمورٌ كثيرة يلزمها ساعات لتفصيلها. فكيف تطلب منـّي الزواج بهذه البساطة؟ على الأقلّ اسألني إذا كنت مرتبطة بأحدهم.

ارتبك!.. لم يجد الكلمات المناسبة للرّد عليها، فراح يحدّق إلى عينيها بحيرة، ثمَّ قرّر تبسيط الأمر والمضيّ قدمًا في الحديث، فقال لها:

أظنّ أنـّك على حق آنسة باسمة.

أجابته بحزم:

"مدام باسمة" لو سمحت.

صُعق!.. لم يتوقّع هذه الإجابة!.. عاد إلى التّحديق في عينيها بحيرة. أنقذه من حيرته لبعض الوقت، السّاقي وهو يضع على الطّاولة فنجاني قهوة وكوبي ماء، وعندما غادر رجعت الحيرة إليه، ورجغ يحدّق إلى عينيها، فأحسّ بشفقـتها عليه وقد ارتسمت في بريقهما. تأكّد من ذلك عندما سمعها تقول:

- هل صُدمت يا أستاذ رامز؟

أجابها بارتباكٍ شديد:

- لا... لا... الحقيقة... لا... لا أدري... من الممكن أن... قد...

هزّت رأسها بأسى. نظرت إلى ساعة يدها ثمّ نهضت، وقالت:

- لقد تأخـّرت، شكرًا على القهوة.

نهض هو الآخر. لم يستطع الكلام. غادرت وبعض الغيظ يلاحق قدميها، من دون أن تنتبه إلى أنّ زميلها المصدوم، أشاح عينيه عنها بسرعةٍ وجلس على كرسيّه بثقل، وغرق في تفكيرٍ وسط تنهدّاتٍ مشبعةٍ بالألم.

أرخى الانزعاج بظلاله على ابنة الثّامنة والعشرين في ما بقي من يومها. باتت حزينةً متأثــّرةً بما حدث. ردّة فعل رامز أيقظت في داخلها نقمتها على ذاتها التي كانت قد نامت لأربع سنواتٍ ولّت. فالمشهد ذاته مع زميلها في التّدريس، كان قد ارتسم  ذلك الحين مع شقيق إحدى زميلاتها، حينما أراد ذلك الشّقيق الزّواج بها، لكنـّه أحجم عن مشروعه بعد معرفته أنّها السّيدة باسمة وليست الآنسة، ولم ينتظر حتّى يعرف أيّة تفاصيلٍ عن حياتها؛ بل قطع علاقته بها فورًا.

عادت نقمتها على ذاتها. كانت قد بدأت تنسى أنّها امرأة شرقيّة، وكادت تنسى أنـّها تعيش في مجتمعٍ شرقيّ، الأغلبية العظمى من شبّانه يتطلـّعون إلى الزّواج بشابّاتٍ "لم تقبّل أفواههنّ سوى أمّهاتهنّ".

مع اقتراب المساء، غاصت في أعماقها أكثر. هي تعرف نفسها جيّدًا، سألتها: هل كـُتب عليّ أن أحمل عبئًا إضافيّـًا فوق أعبائي، وعذابًا جديدًا فوق عذابي لمجرّد أنّني سيّدة؟

ما زالت في الثّامنة والعشرين من عمرها، إحدى السّنوات الفضّية في مسيرة حياتها. فهي تدرك جيّدًا أنّه في هذا العمر يصارع النّضج الأنثوي التّقاليد الاجتماعيّة، ويفتـّش عن الحنان والحبّ، ويألف الرّغبة، وينتقي الرّجل المتحرِّر والمسؤول، وينشد الاستقرار العاطفي، ويرسم طريق الغد. فأين هي من كلّ ذلك؟!.. هي تعرف في قرارة نفسها أنّ حياتها كانت مليئةً بالصّعوبات، وأنّها استطاعت أن تتابعها بالأمل وصناعة الفرح على الرّغم من هذه الصّعوبات، وهي تعرف أيضًا أنّ نضجها الأنثويّ لا يصارع إلا ّ قلبها المفعم بالعاطفة، ولا يفتـّش إلاّ عن غصّـتها، ولا ينتقي إلا ّ ضبابـيّة أحلامها، ولا ينشد إلا ّ تعبها، ولا يرسم طريق الغد إلاّ بدموعها.

كادت تنسى أنـّها امرأة شرقيّة، مع أنـّها لم تنسَ أنّ استقلاليّتها وسيادتها على نفسها لا تعنيان بالضّرورة تحررّها المطلق منذ فقدانها زوجها، أو كسرها الكلـّي للقيود الاجتماعيّة الحديديّة. تحـفّظت طيلة سنواتٍ على الارتباط بعلاقاتٍ عاطفيّةٍ عابرة، وبموازاتها رفضت الارتباط بعلاقاتٍ تشبع الجسد ولا تروي الرّوح، ولم توفَّق منذ أكثر من تسع سنوات، برجلٍ يحبّها ويحترمها ولا يخاف من أمسها أو تشكّل له كلمة "السيّدة" أيـّة عقدةٍ من العقد الرجوليّة المزروعة في تراب شرقنا الكئيب.

 (يتبع)

  1
  2
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال