14 سبتمبر . 3 دقائق قراءة . 678
الحافلة .. !!
وما أدراك ما الحافلة ..
في زيارة لمعجم المعاني يعرفك بها على أنها سيارة كبيرة لنقل الركاب داخل المدينة. الجمع حافلاتٍ وحوافل، الأصل حافلٌ، والجذع حافل، والجذر حَفَلَ.
والحفل هو الجمع العظيم من الناس، وربما لهذا سميت حافلة _ لا أدري _ فهي تحفل بالناس من شتى الأجناس (وعلى كل لون يا باتيستا*).
مبدئياً ما أستقله بشكل شبه يومي إلى عملي ومنه (وهو الذي يبدو في الصورة) ، لا تصح تسميته "حافلة" لكني سأحتفظ بتلك التسمية ليس لشيء سوى أن الكلمة أعجبتني.
وفي الحافلة .. أختار دائماً "الركن البعيد الهادي" وأفضله على سواه قدر المستطاع .. ولا بد أن يكون قرب الشباك، رغم أني في معظم الأحيان لا أرى ماذا يوجد خلف زجاجه .. فبعد لحظات من جلوسي سرعان ما أنفصل عن العالم الخارجي وأقفل على نفسي داخل قوقعتي.
قد يتسائل البعض ماذا يوجد في تلك القوقعة؟! وما هو العالم الذي تسبح فيه بعيداً عن الواقع؟!
الحقيقة لا يوجد جواب محدد .. الجواب يتبع المزاج .. ومفتوح على احتمالات عدة.
فمثلاً قد أقضي تلك الدقائق التي تقارب الأربعين دقيقة في استرخاء، أحلق فيها خارج الزمكان مع خلفية مشبعة بأغانيّ المفضلة. وأحياناً استرجع أحداثاً ومواقف، أو أفكر بأحداث قد تقع، أو أدير حوارات متخيلة مع شخصيات سواء من العائلة أو العمل أو سواها .. ولا أخفيكم سراً .. كثيرة هي المرات التي حدثتهم فيها بما لا ينفع قوله في الواقع .. شتمت البعض وعاتبت آخرين وعريت حقائق.
مؤخراً ومنذ بدأت أكتب .. صرت أستغل هذه الدقائق كمصنع للشخصيات أولاً، ففي الحافلة نسيج عجيب من البشر من شتى الأصناف، أُغني بها ما أدّعي أنه سيكون يوماً مخيلتي الأدبية (إذا الله عطانا عمر).. خليط من صور ومشاهد وأحاديث وتفاصيل، وثانياً كمصدر للإلهام بينما أسرح في نظري عبر الأفق (مالم تمر بقربي سيارة القمامة وتوقظني رائحتها وتضرب بي وبمخيلتي وبأفكاري عرض الحائط).
وجلّ ما أكرهه وأنا في لحظات الهروب هذه من الزمكان (وهي كلمة أعجبتني أيضاً لذلك أستخدمها) وخاصة عندما أدخل في موود الاسترخاء، هو المقاطعة.
أذكر مرة اتصل بي أخي يريد السؤال عن شيء، وللصراحة لم يكن مهماً وكان يمكن تأجيله، لم أشعر بنفسي إلا وأنا أصرخ فيه وأرغي وأزبد وعيون كل من في " الحافلة " تنظر في فضول وحب استطلاع أهل العرب المعتاد.
ثورتي وقتها كانت بسبب أنه أخرجني من قوقعتي. بات هذا وقتي المقدس الخاص .. الوقت الوحيد خلال اليوم الذي أطير فيه بعيداً .. اليوغا المفضلة .. فدعوني وشأني.!
ولا يمكن الحديث عن "الحافلة" دون ذكر رحلتي الصباحية شبه اليومية مع " عمو أبو يزن " كما أحب أن أسميه (بيني وبينه) لأشاكسه .. فكلمة عمو ليست في مكانها الصحيح عندما أوجهها له وأنا أقترب من عقدي الرابع!!.
وأخشى أن يقول لي يوماً : " عمى الدبب**" !!.
"عمو" أبو يزن لم يحاول يوماً أن يخرجني من قوقعتي، ليس لأنه يراها، ولكن لأنه ببساطة مشغول بأداء عمله، لكن ما لا يعرفه (هو وسواه) أني أحتاج بعض الوقت حتى أخرج منها.. فعندما تصل رحلة حافلتنا الصباحية إلى نهايتها وأترجل منها تكون روحي ما تزال هائمة بين عالمين ولم تستقر بعد .. لذلك اعذرني يا "عمو" ..عليّ الاعتراف .. أكثر من مرة حاولتَ فيها قول شيء لي وأنا أنزل من السيارة، وكنت أومئ برأسي علامة الفهم والموافقة، لكني في الواقع لم أكن أدرك شيئاً ..! لذلك .. لو كانت الموافقة في غير مكانها أحياناً أو رأيت علامات الذهول أو عدم الفهم على وجهي فلا تستهجن ذلك ولا تستغرب .. والتمس لي العذر.
وفي الرحلة الصباحية أيضاً تتكرر بعض الوجوه، ترافقنا بشكل دائم ، لم يسلم أصحابها مني ولا من أفكاري، فكثيراً ما نسجت حكايات حولهم من وحي شكل كل شخص وسلوكه، وأظن أني لو قررت تدوين كل أفكاري وتخيلاتي خلال السنوات الماضية لاحتجت مجلدات، لكن (الله ستر وكبرت عقلي!).
هناك سر آخر أود مشاركته معكم (أياً كنتم من تقرؤون كلماتي) .. في طفولتي كرهت السيارات عموماً .. لماذا؟! لأنني كنت أصاب بدوار شديد كلما ركبتها .. دوار مزعج واقياء في أغلب الأحيان .. وصل بي الأمر حد الشعور بالإعياء لمجرد فتح باب السيارة وشم رائحتها .. رائحة جلد المقاعد والوقود .. وحُرمت من نزهات ورحلات كثيرة بسبب هذا الأمر .. مع التقدم بالعمر وكثرة التنقلات خلال الدراسة الجامعية اعتدت الأمر رويداً رويداً .. والآن بالكاد أشعر به.
وفي إطار علاقتي اليومية بالحافلات .. يبقى شيء واحد يقض مضجعي .. وهو موضوع القراءة .. فرغم تخلصي من آفة دوار السفر إلا أنها تحاول اقتحامي مجدداً إذا ما حاولت القراءة في وسائل النقل، وغالباً لا حل لها، ونصحني الأطباء بألا أجبر نفسي على فعل ذلك ، ما باليد حيلة .. أشعر بالغيرة كلما رأيت أحداً يقرأ في الحافلة أو المترو أو القطار (طبعاً مو عنا .. عنا بس يشوفوا حدا ماسك كتاب بيطلعوا إشاعة عليه انه معقد أو nerd)، وصرت أحاول الاستعاضة عنها أحياناً بالاستماع للكتب الصوتية وحلقات البودكاست (أحسن من بلا).
هذه العلبة من الحديد والماكينات.. كما أراها .. تركيبة .. تركيبة معقدة .. تطوي بداخلها تناقضات .. وقصص مختلفة .. أسرار .. روائح .. أفراح وآلام .. نظرات .. ثقافات وأفكار .. كل تعقيدات النفس البشرية تستطيع رؤيتها في حافلة واحدة.
لو أهداني "عمو" علاء الدين مصباحه يوماً، وتكرم عليّ الجني الأزرق اللطيف بتحقيق أمنية، ستكون حتماً قراءة أفكار الركاب، فأنا بالنهاية عربي بطبعي الفضول والتطفل، وهي فرصة لاقتحام عوالم جديدة لأشخاص آخرين .
قد يكون ركوب الحافلة مضنياً ومرهقاً، خاصة في بلادنا الجميلة بعد ما آلت إليه بفضل احترامنا واستحقاقنا لها..!! …!! .. !! ..
وقد يرى بعض ركاب السيارات الخاصة أنها تجربة مستحيلة يرفضون خوضها تحت أي إغراء، لكن ولقناعتي الشديدة أن لا شيء في هذه الحياة بلا ثمن سواء رفاهية الخاص أو معاناة العام، فإني أرى الحافلة _ على مساوئها _ تجربة مُستحقة، لا سيما إذا كان السائق لطيف ودمو خفيف وذوقه في الأغاني نظيف .. !!.
------------------------------------------------
*باتيستا : وأحياناً باطيسطا .. نوع من القماش كان مشهوراً، ومنتشراً بين الفقراء ومحدودى الدخل ومتوسطيه في مصر، وكان متميزاً بتعدد الألوان وتباينها.
**عمى الدبب : شتيمة مشهورة في سوريا .. خاصة عندما نقول يا عمو لشخص، فيجيب "جاك عمى الدبب" أي أصابك عمى الدبب، بمعنى (كيف شفتني عمو .. وانت بتطلع متل جدي) .. لكن لم أفهم ما ذنب الدببة المسكينة، يقال أن الدب عندما يصبح أعمى يصبح أرعناً ويزداد بطشه، والعلم عند الله، وعند من أفتى هذه الشتيمة.