الغرفة السفليّة (الجزء السّادس)

05 يناير  .   6 دقائق قراءة  .    614

Photo by Kristijan Arsov on Unsplash

 إقرأ الأجزاء السابقة هناالجزء الأول - الجزء الثاني - الجزء الثالث - الجزء الرابع - الجزء الخامس

قالت أسمهان لباسمة:

- لقد اتـّصل بي رامز وأعلمني بما جرى بينكما.

امتعضت!.. رأت في الأمر تجاوزًا فاضحًا لخصوصيّتها. ثارت غضبًا، لكنّ صديقتها هدّأتها وشرحت لها الأمر، قائلة:

- اتـّصل بي أمس، وطلب منـّي ملاقاته إلى مقهى قريبٍ من المدرسة لأمرٍ طارىء. انشغل بالي ولبّيت طلبه. هناك في المقهى رأيت شخصًا آخر. كان حزينـًا يائسـًا. قال لي إنـّني ملاذه الأخير. أخبرني بمجافاتك له، فلمته على تصرّفاته، ولكنـّه أسرّ إليّ بعذابه طيلة الأسبوع المنصرم، وأباح بحبّه لك.

سألتها بذهول:

يحبّـني؟!.. أيستطيع الإنسان أن يحبّ بهذه السّرعة وهو في عمر الأربعين؟!..

- كان صادقـًا بكلامه. طلب منـّي أمرًا واحدًا فقط.

ما هو؟

- أن تعطيه فرصةً كي تتعرّفا إلى بعضكما أكثر.

لا أمل منه يا  أسمهان، فهو تقليديٌّ إلى أبعد حدود.

- وكيف عرفت أنـّه تقليديّ؟

الطّبع الشّرقي متـأصّلٌ فيه. هو يجزع من أيّ شيءٍ غريبٍ عن عادات مجتمعنا وتقاليده. أبسط الأمور تقلقه. في مخيّلته شابـّة تقليدّية عذراء، تنتظر فتى أحلامها القادم على ظهر فرس بيضاء، فيأتي ويبتسم لها، فتُغرم به، وترمي نفسها بين يديه.. لا يا أسمهان، ليس هو الشّاب الذي أرى فيه الزّوج المناسب، ولا الحبيب النّاضج.

- أنا أفهمك جّـيدًا، ولكنّ الرجل لجأ إليَّ ووعدته.

لقد وفيتِ  بوعدك وحدّثتني.

- أعطي هذه الفرصة لنفسك وليس له، فأنت بأمسّ الحاجة إليها.

تسلـّلت الكلمات إلى رأسها كتسلـّل الهواء المنعش إلى الرّئتين. لاذت ابنة الثّامنة والعشرين بالصّمت. أمعنت في التّفكير. استساغت ما قالته صديقتها، فدفعت بكلماتها إلى قلبها، لكنّها اصطدمت بالقفل الصّدىء المتربِّع فوق بوّابته. انتبهت أحشاؤها إلى الأمر، فتلوّت على مضضها وأطبقت على كلّ الآلام المتمدّدة في الأعماق.

شعرت الشابّة الجميلة بتمـّزقها من جديد. صرخت في وجه آلامها بحرقةٍ ولوعة. أخافتها، فهربت من مستعمرتها الغائرة في سواد السّنوات، وانتشرت في أصقاع الجسد؛ في الصّدر، فوق الكتفين، في الرّأس، بين الأصابع، تحت الجلد، في غائضة العينين، وفوق الخدّين..

زاد تمزّقها، فأمرت آلامها بالتجّمع فوق بوابـّة قلبها، وكسر القفل. اعتصر القلب حزنـًا، خاف من صدمةٍ لا تُحتمل ومن تجربةٍ مرّة، لكنّه أرضى صاحبته فتمايل خجلاً. أحسّت به، فشكرته ببريقٍ طفوليٍّ زرعته في عينيها المدمنتين على التّعب، وأهدته ابتسامةً ارتسمت لثوان ٍ قليلة فوق شفتيها، لأنّ شيئـًا ما أعاق سحرها. كان عقلها يراقب ساخرًا. سألها: أتستطيعين تحمّل صدمات جديدة؟

عاد التشتّت إلى الشابّة الحائرة، لكنـّها لملمت آمالها المبعثرة بسرعة. جمعتها في باقة حنان، وقدّمتها هدّية إلى عقلها، وأرفقتها بكلمتين ناعستين: أعطني فرصة!..   

ثوان ٍ قليلة مرّت، ونهض الصّفاء عن سريره، ومشى في العروق والرّوح. شعرت بهالته. أعادت الابتسامة إلى شفتيها، وحرّكت لسانها، قائلة:

حسنـًا!.. سأُعطي نفسي فرصة. قولي لرامز أنا جاهزة كي ألتقيه.

كان كلامها هذه المرّة مسموعـًا، لطيفـًا. وجّهته إلى مسامع صديقتها التي احتضنتها، قائلة:

- هذا قرارٌ صائب.

في اليوم التالي، التقت باسمة رامزًا في مطعمٍ أنيقٍ يطلّ على صخرة الرّوشة في بيروت. كان الوقت يلزمه أقلّ من ساعةٍ كي يزفّ الشّمس إلى البحر الساكن، ويرشّ عليهما الورود الغسقيّة.

جلس الاثنان في إحدى زوايا المطعم المطلـّة على العروسين، وراحا يتحدّثان بهدوء. قالت له:

- حياتي معقــّدة جدًّا.

*أنا مهتمٌّ بكِ وبحياتك بكلّ ما فيها ومن فيها.

- لكنّ تصرّفاتك لم تدلّ على ذلك.

*أعتذر إذا كنت قد تصرّفت خطأً.

- لا داعي للاعتذار.

*أنا لا أريد شيئـًا منك سوى أن تفتحي قلبك لي، وتمنحيني فرصةً لأثبت لك صدق مشاعري.

- حسنـا!.. ستعرف عنـّي كلّ شيء.

  ابتسم وأبدى ارتياحه، فلمعت عيناه. صمت قليلا ً، ثمَّ قال:

*أريد أن أعرف شيئـًا عن زواجك.

حدّقت إلى عينيه فشعرت بصدق مراده. قرّرت أن تحدّثه بالأمر وتطلعه عليه. كانت بحاجةٍ إلى تحطيم الصّخرة الجاثمة فوق صدرها. تنهّدت، ثم قالت:

- تزوّجت منذ عشر سنواتٍ تقريبًا، كنت في الثّامنة عشرة من عمري، وللأسف فإنّ زواجي لم يدم سوى ثلاثة شهور.

دُهش من كلامها!.. فسألها:

*هل وقع خلافٌ بينكما؟!..

- لا. إنّما القدر هو الذي وقع بيننا.

قالتها بحزن ٍ شديد وكآبة، ثمّ تابعت:

- لم تكتف ِ الحرب بأبي؛ بل خطفت زوجي أيضًا. 

*أنا آسف.. آسف جدًّا!..

 - في النهاية الحياة لا تتوقــّف، الحرب أذت الجميع، كانت مرحلةً صعبة. كلّ اللبنانيّين أذتهم الحرب؛ فالبعض منهم خسر أرواحًا، وآخرون خسروا أموالاً. جميعنا ألحقت الحرب الأذى بنا.

*صدقـًا، إذا كان الأمر يضايقك، فأنا أكتفي بما سمعت، ولا أريد أن أسمع المزيد.

نظرت إليه راسمةً ابتسامةً حزينةً فوق شفتيها، وقالت:

- لقد تعرّفت إلى زوجي في المستشفى حيث كانت تـُعالَج أمـّي التي بقيت في المرحلة الأولى من علاجها هناك نحو سبعين يومـًا، تصارع الحياة والألم والعذاب. أنت تذكـر جّيدًا أيـّام الحرب وكيف كانت المستشفيات تعجّ بالجرحى. كانت في الغرفة ذاتها امرأة أُصيبت بشظايا قذيفةٍ وحالتها ميؤوس منها، وكان زوجها البالغ من العمر اثنين وخمسين عامـًا يسهر عليها. لم أرَ أحدًا غيره خلال فترة  وجودها في المستشفى، كما لم يكن أحدٌ غيري يسهر على أمّي.

مرّت ثلاثة أسابيع على بقائنا في الغرفة سويًّا قبل وفاة المرأة. جمعتني مع الرّجل المصيبة؛ هو وحيدٌ وزوجته تنازع، وأنا وحيدةٌ وأمّي تنازع. لجأنا إلى بعضنا بعضًا، فبتنا نأكل سويـًّا، نشرب سويـًّا، وبات خوفنا مشتركًا، وهمّنا مشتركًا.. كلّ شيء ساهم في تقاربنا وتآلفنا.

بعد موت زوجته، بقي يزورنا في المستشفى يوميـًّا، وبعد مرور أربعين يومًا على وفاتها، كانت أمّي قد بدأت تستعيد نشاطها قليلاً، فطلب يدي منها، وتزوّجنا بعد خروجها من المستشفى مباشرة، ومن دون أيّ احتفالٍ أو ضجـّة، وكان شرطي الوحيد أن تعيش معنا في منزله، فوافق.

                                                                                       (يتبع)

 

 

  1
  4
 2
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
Maher
08 فبراير
أحداث القصة في تشويق واللي صار لباسمة كبير جدا لكنها بقية طيبة القلب ... كنت متكئا عندما بدأت القراءة، ونهضت في المنتصف
  0
  0
 
يوسف البعيني
08 فبراير
شكرًا على متابعتك.. كما ذكرت لك سابقًا، ثمّة أحداث لن يتوقّعها القارئ، فيها من التّشويق ما يجعله أسير إكمال القراءة بشكلٍ متواصل.. عسى أن تنال إعجابك..
  1
  1