12 يناير . 7 دقائق قراءة . 985
خبرٌ جميل ابتدأت به عامي الجديد، وكم نحن بحاجة للفرح والأخبار الإيجابية بعد اتساع دائرة الجو التشاؤمي.
نعم؛ أعلنت منظمة اليونيسكو المعنية بالثقافة عام 2021 عام فيودور دوستويفسكي، بمناسبة مئويته الثانية.
بالطبع لكل المهتمين والمحبّين للأدب الروسي، يعتبر هذا إنجاز فني وأدبي وحضاري وعلى رأسهم إنساني.
بدأ اهتمامي بالأدب الروسي عموماً وأدب فيودور خصوصاً منذ حوالي خمس وعشرين عاماً على أقل تقدير. حيث أنني نشأت في أسرة كان من أجمل المشاهد المنزلية فيها الكتاب في أيدي أفرادها مساءً. في غرفة الضيوف في منزل جدَيّ، والتي عادةً بابها مغلق وطالما تكون باردة ومقاعدها مجللة بأقمشة بيضاء ويمنع الدخول إليها إلا في حال جاءنا ضيوف. فقد كانت هذه الغرفة بالنسبة لكثيرين من أبناء جيلي كعالم وكوكب نسترق الدخول إليه على غفلةٍ.
على الحائط الشرقي للغرفة كانت المكتبة تحتله بأكمله من الزاوية للزاوية ومن الأرض للسقف، مليئة بالكتب على نوعين: الأول موسوعات علمية عالمية، والثاني كتب من الأدب العربي المعاصر (بالنسبة لتلك الحقبة!).
أثناء قراءتي لإحدى الروايات تلك في مراهقتي، جاء الكاتب على ذكر عظيمنا فيودور، فاستوقفني الاسم الغريب والجميل والكبير، وأشعل في داخلي رغبة بالتعرّف عليه شخصياً. فطلبت من إحدى خالتيّ المثقفتين اصطحابي لشراء واحدة من قصصه أو رواياته. وبالفعل في تلك الأيام كان من أجمل التظاهرات التي تنظمها دمشق هي معرض الكتاب الدولي السنوي، وهناك كان ملعبي الأجمل منذ الطفولة، أدور بين تلك الدور المنوعة والكتب الملوّنة والقصص والعناوين التي كانت تترسخ في لاوعي وتُراكم إرثي الأدبي والمعرفي.
ومن هنا وإلى يومنا بدأت تلك الصداقة، وكان محيطي وشطآني بين غلافي كتبه وصفحاتها، حيث تشكلت أهم معالم شخصيتي ورؤيتي للعالم. وفي كل مرة كنت أعيد قراءة واحدة من رواياته كنت اكتشف فيها جديداً في إمكاناته الوصفية الدقيقة للمشهد وتفاصيل صياغة كل شخصية. ويكبر إدراكي تبعاً للمرحلة العمرية التي أمرُّ بها والخبرات الاجتماعية التي أُشَكلُها تباعاً.
يتصف أدب دوستويفسكي عموماً بشرح دقيق للصورة المشهدية للمكان بكافة حيثياته، ليدخلك تدريجياً بتوءمة مع المكان لتشعر دون أن تدري إلّا بعد حين أنك كنت جزءاً من المشهد تقف في زاوية المكان وتراقب ما يجري عن كثب. هذا الوصف الجمالي يتيح لك إمكانية التعرّف على الإطار التاريخي والزماني والثقافي والحضاري بشكل شمولي حتى على الطقس المخيم على المكان.
أيضاً مما يمّز أدب فيودور هو قلّة الحوارات بين الشخصيات مهما كثرت أو قلّت، ويغلب عليه السرد القائم على علاقة الشخصية مع ذاتها والصراعات الداخلية التي تعيشها شخصيات الرواية. وهكذا ترى أنه بعد كل جدل بين شخوص القصة، يذهب كلٌ منهم ليعالج ويقارب الحدث بحوار ذاتي فلسفي ولكن بصيغة بسيطة سهلة تناسب القارئ.
يساعد أسلوب دوستويفسكي الروائي في رفع السوية الفكرية والمعرفية لقارئه، فيسمو به من خلال الأدب إلى أسئلة وجودية، ويعيد من خلالها اكتشاف رسالته ودعوته في الحياة من خلال الطروحات المقدمة. حيث أن هذه الروايات كافة لا يثيرك فيها فقط البعد الجمالي وشهرة الكاتب، بل تأخذك نحو تعلّم فلسفة اجتماعية ونفسية تفتح أمامك آفاق التعرّف على مكنوناتك.
هل فيودور شوبنهاوري[1] النزعة؟
لمن يعرفه أو يسمع عنه أو قرأ بعض الاقتباسات بالتأكيد سيجيب بـ نعم.
أما في الحقيقة فالجواب الأصح هو بالطبع كلا، لا يمكن لشخص عانى ما عاناه دوستويفسكي وبكل الخبرات السيئة التي مرَّ بها في حياته والأمراض التي ألقت بثقلها عليه، إلّا وأن يتلمَّس الحس التفاؤلي بين طيات فلسفته الأدبية وأسلوب الوعظ الإيماني بالرجاء. غير أنه أيضاً وليد حقبة تاريخية كانت فيها تتجلى إرهاصات الشعب الروسي بكافة أطيافه وعلى كافة المستويات من تقلبات فكرية وسياسية واجتماعية وإلخ.
هذا كُلّه شكل المنظور الخاص له للعالم والذي قُدّمت حوله العديد من الدراسات الجامعية، على المستوى الشخصي أجد أن فلسفة دوستويفسكي الفكرية والاجتماعية تنطلق من عبارته "من الألم يخرج الإبداع" وهي مبنية على تراكم خبرة الشعب الروسي الطويلة وأشكال المعاناة التي تعرضوا لها. حيث أنه أيضا يركز على أن السعادة الدائمة بمعنى الرخاء تقود إلى الكسل والتراخي والانقياد نحو الشهوات، بينما التجارب تساعد الإنسان على البقاء يقظاً في سعيه.
عود على ذي بدء، بعد أكثر من عشر سنوات من التعلّق بهذه الظاهرة الدوستوفسكية النادرة، وأثناء دراستي للفلسفة وعلم الاجتماع، تبنّيت وانتميت إلى المدرسة الوجودية المؤمنة وعلى رأس أعلامها (سورين كيركيغارد) و(نيقولا بيردياييف)، حيث أن الأخير قد أولى كتاباً خاصاً للمعلّم واسماه "رؤية دوستويفسكي للعالم" ومنه اقتبس ختاماً لمقالتي
يبتدئ بيردياييف مقدمة كتابه على الشكل التالي: "لعب دوستويفسكي في حياتي الروحية دوراً حاسماً. فقد تلقّيت منه –ولمّا زلت مراهقاً- ما يُشبه التطعيم. وأثار فيَّ من الحماسة والنشوة ما لم يثره كاتب أو فيلسوف آخر. وكنت في كل مراحل حياتي أشطر الناس قسمين: أولئك الذين تأثروا بروح دوستويفسكي، وأولئك الذين كانوا عن هذه الروح غرباء. وإذا كانت المشكلات الفلسفية قد تمثّلت لوعيي في وقت مبكر جداً، فما ذلك إلّا بفضل تلك "الأسئلة اللعينة" التي أثارها دوستويفسكي بكل تأكيد. وما من مرة قرأته فيها، إلا اكتشفت لي منه وجه جديد. وفي شبابي صدمتني على وجه الخصوص "أسطورة المفتش الأكبر" إلى درجة أنني عندما تحوّلت لأول مرة إلى السيد المسيح، لاح لي في الصورة التي اتخذها في تلك "الأسطورة". وكانت فكرة الحرية تقوم دائماً عند أساس تصوري وإدراكي للعالم. وفي هذا الحدس الأصلي للحرية عثرت على دوستويفسكي وكأنه في الوطن الذي اختاره لنفسه. ومنذ ذلك الحين استولت عليَّ زمناً طويلاً الرغبة في أن أكرّس له كتاباً بأكمله: بيد أنني لم أحقق هذه الرغبة إلا بصورة جزئية في بعض مقالات متفرقة. وأخيراً دفعتني المحاضرات التي ألقيت في الندوة التي خصصت لدوستويفسكي في شتاء 1920-1921 إلى أن أجمع شتات تأملاتي عن هذا الموضوع. وهكذا وضعت هذا الكتاب الذي لم أحاول فيه الكشف عن تصوّر دوستويفسكي للعالم فحسب، بل حاولت أن أضع فيه شطراً كبيراً مما يؤلف تصوري الخاص عن العالم".
[1] أرتور شوبنهاور، فيلسوف ألماني، عُرف بنزعته التشاؤمية، وأن كل ما في الحياة هو شر مطلق.