أنا والقائمات والمحبّة في عيد الحبّ

14 فبراير  .   6 دقائق قراءة  .    773

أكتب قائمات طويلة منذ سنوات. قائمة لما يجب أن أفعله اليوم، وقائمة لما يجب أن أفعله في الأسبوع وقائمة لما يجب أن أفعله في الشهر والسنة، هذا إلى جانب قائمة لأهدافي السنوية والشهريّة والأسبوعيّة أيضا ! هل يجب أن أبوح بأنّني لا أنجز حتّى عشر ما أنوي فعله؟ كلّ من شاهد فلم "مذكرات بردجيت جونز" Bridget Jones Diary يعرف أنّ ذلك غير ضروريّ...لأنّ القائمات لا تكتب كي تُطبّقَ.

تأتي الحياة بألاعيبها وخزعبلاتها وأعاجيبها كي تكنس القائمات بكنسة واحدة. يتّصل بك أحدهم وهو في حاجة إلى الحديث والفضفضة، فترجئ ذلك العمل الذي لم تكن متحمّسا له منذ البداية. ثمّ حتّى لمّا تطفئ هاتفك، وتطفئ بعده لوحتك الالكترونيّة، ثمّ تستلّ خيط الأنترنت من الحائط، وتجلس أخيرا للعمل، فإنّك سوف تتذكّر أنّك جائع، وبعد أن تأكل ستفكّر بكلّ المشاكل التي سبّبها لك ابن عمّك منذ الصغر وكيف أنّه حقّر من شأنك أمام الجميع، ثمّ ستقلّب حياتك فتبرز لك باهتة، سطحيّة، بعيدة كلّ البعد عمّا تخيّلته لنفسك قبل سنوات.

وهَبْ أن لا أحد يتّصل بك (هذا غير ممكن لكن لنتخيّل...) وأنّك أطفأت الأنترنت، وأنّك شبعان لا حاجة لك إلى طعام وأنّك مارست ما يكفي من تمارين التأمّل كي يكون ذهنك خاليا من كلّ الأفكار العبثيّة المضيعة للوقت، فأنا أؤكّد لك أنّه في تلك الحالة، سوف يأتي من يدقّ على باب بيتك كي يعلمك بخبر مفاجئ وعلى الأغلب سيّء، أو أنّ أحدهم سوف يصطدم بسيّارتك المركونة أمام بيتك، أو أنّ أنابيب الماء سوف تنفجر فجأة في المطبخ!

كلّا...القائمات لا تنفع! سوف تغيّر الحياة جميع قراراتك، وتجرّك إلى ما لم تتخيّله يوما. سوف تمسك بك من رقبتك وتحملك إلى فوق وتتركك تهوي، ثمّ تأخذ مجدّدا بتلابيبك وترفعك ببطء حتّى تنتصب على قدميك وتظلّ ترفعك إلى أعلى قبل أن يحين وقت السقوط. "فورتونا" أو "عجلة الحظّ"، تلك التي يتأمّلها "أغناطيوس" في رواية "تحالف الأغبياء" للأمريكي "جون كنيدي تول" الذي انتحر بسبب عدم قبول أي ناشر بروايته في حين حازت الرواية جائزة البوليتزر المرموقة عند نشرها إثر موته!!! هل الحياة فعلا عجلة حظّ تدور أحيانا إلى أعلى فيستقيم حال المرء، وتدور أحيانا إلى أسفل فيسوء وضعه؟

 

من خبر الحياة قليلا يعلم أنّ الجهد الجهيد أحيانا لا يؤتي أكله، في حين أنّ بعض الحركات قد تفتح لك أحيانا أخرى أبوابا بقيت موصدة لوقت طويل. كتب عالم الاجتماع العراقيّ، عليّ الوردي، في كتابه "خوارق اللّاشعور" والذي تعرّض فيه إلى البحوث العلميّة الجارية حين صدر الكتاب (أي سنة 1951) في مجال القوى النفسيّة الكامنة في اللّاشعور – كتب "أودّ أن أصارح القارئ بأنّي كنت في أيّام شبابي من ضحايا هذا المبدإ السخيف، مبدإ "من جدّ وجد".  ويضيف أنّ هذا الشعار ومثله ليست سوى شعارات فارغة، لا تعدو أن تكون تحفيزا لأطفالنا في المدارس، لكنّ تلقينها والتطرّف فيها للكبار والبالغين "قد يؤدّيان إلى عكس النتيجة التي نتوخّاها منها".

أوافق تماما عليّ الوردي في أنّ مثل هذه الشعارات هراء. فلو كان لها حقّا تأثير على البشر عامّة، لكنّا في تونس على الأقلّ، أولى الأمم من حيث التقدّم الصناعي والتكنولوجي والاقتصادي والبشريّ، لفرط ما كرّرت المناهج المدرسيّة هذه الأقوال الرنّانة الفارغة، ولفرط ما سمعنا من دروس في الوعظ والأخلاق والوطنيّة واحترام إرادة الشعب في الصحافة ووسائل الإعلام والخطب السياسيّة.

ولكنّ جميعنا نعلم أنّ الواقع غير ذلك. 

يكتب عليّ الوردي: "ممّا لا ريب فيه أنه ليس هناك حظّ بالمعنى الذي يفهمه النّاس عادة من هذه الكلمة. إنّ هناك بالأحرى قوى لاشعورية تنبثق من أغوار النفس ويكون لها أثر لا يستهان به في نجاح الفرد أو نبوغه أو تفوّقه، والفرق الذي نراه أحيانا بين فرد وآخر في مبلغ النجاح رغم تشابههما في السعي والذكاء ناتج في الأغلب من كون أحدهما يسمح لقواه اللّاشعوريّة بالانبثاق ويستفيد منها في حياته العمليّة بينما يكدح الآخر طول وقته ويجهد نفسه فيكبح بذلك تلك القوى ولا يصغي إلى حوادسها وحوافزها الخارقة".

وهو يذكر أن أصحاب المواهب الخارقة في رأي باحث انجليزي في العلوم الطبيعيّة باسم "سينل"، "لا يستطيعون أن يصيبوا في حدسهم إلّا إذا توقّفت حركة تفكيرهم. وقد يتفق أن تكون لدى بعض الناس القدرة على إيقاف حركة المخّ بصفة مؤقتة، أو أن يجعلوه "صفحة بيضاء""

ما الفرق بين ذلك وبين تمارين التّأمّل وتنقية الفكر التي تمارسها المناهج الروحيّة والصوفيّة على اختلافها؟ لا شيء برأيي...آه فقط أنّ هذه المناهج تضيف أن لا أحد في حال من الغضب أو الغيرة أو الحسد أو الإحباط أو الكراهيّة قادر على أن يجعل من فكره "صفحة بيضاء". الصفحة البيضاء وليدة الشعور بالامتنان والطمأنينة في جميع الأحوال حتى في حال العسر. وذلك لا يكون إلّا بتغذية الشعور الشامل بالمحبّة.

ولكنّ المحبّة في هذه البلاد عملة أصعب من اليورو...لذلك فالثريّ الثريّ هو من يمتلكها. والسعيد كما يقول عليّ الوردي، هو من استطاع أن يفرّق بين أوقات يحتاج فيها الفرد إلى السعي والجهد، وتلك التي تقتضي منه الانسياب والاسترسال واللّامبالاة وقلّة الحرص، ثمّ يسلك في كلّ حين حسبما يقتضيه المقام. أما القائمات فنواصل كتابتها فقط كي نظنّ أنّ لدينا سلطة على الحياة.

 

  5
  4
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال