16 يناير . 7 دقائق قراءة . 581
إقرأ الأجزاء السابقة هنا: الجزء الأول - الجزء الثاني - الجزء الثالث - الجزء الرابع - الجزء الخامس - الجزء السادس - الجزء السابع
تقدّم رامز تجاه الطّفل بتثاقل. انحنى فوقه وحضنه. اعتصر قلبه، وراوده شعورٌ لم يألفه من قبل. رحّب به "هادي" على طريقته. أدمى قلبه حينما سمعه، وجفـّـل عينيه اللّتين استنهضتا دموعه لتتسابق فوق خدّيه. لم يحتمل، فآثر الابتعاد عنه ووقف في إحدى زوايا الغرفة يحدِّق إليه.
كان الطّفل المعاق ابن التّسع سنوات، جالسًا على كرسيٍّ خاصّ به، ولا يستطيع تحريك قدميه ويديه إلا ّ بصعوبة. رأسه متدلٍّ نحو الأسفل قليلاً، ولا يستطيع رفعه إلاّ ببطء. كلّ شيء فيه كان يدلّ على مأساة، ويشير إلى قساوة هذه الحياة. لا يستطيع الكلام. يتأوّه كي يعبّر عن براءته وحبّه وطفولته. نعومة ملمسه لم تخفِ خشونة القدر الذي رمى به بين أنياب السّنوات السّوداء التي ألفته. لم يعرف سوى أطبـّائه وممرّضاته وأمّه، فاختزن ما يقدر على تمييزه في حنجرته ليحييّهم كلـّما اقتربوا منه أو لمسوه أو عانقوه.
قاسيةٌ أنت أيّـتها الحياة؛ بل متوحّشة!.. ما ذنب هذا الطّفل كي يتكوّم فوق كرسيٍّ غريب؟!.. ما ذنب أمّه؟!.. سأل رامز نفسه بأسى، واقترب من باسمة واحتضنها. كان البكاء قد أرهقها. لجأت إلى صدره. شعرت بالراحة ولمست حبـّه وحنانه. بقي الاثنان لبعض الوقت على هذه الحالة، ثم اقتربا سويـًّا من الطّفل. أخذت امّه تحدّثـه فأخبرته عن رامز أنـّه صديقها، وسألته بضعة أسئلة. كان يتجاوب معها كأيّ طفلٍ في سنــّه، ولكن، بلغةٍ مختلفةٍ عن سواها؛ لغة التأوّه والتأوّه فقط.
مرّ أكثر من نصف ساعةٍ قبل أن يغادر الاثنان الغرفة ويتركا هاديًا مع وحدته وعذابه. خارجـًا، أخبرت "أمّ هادي" زميلها، أنّ طفلها وُلد معاقـًا، وكان السّبب الرّئيس في ذلك، الأزمة الصحيّة التي مرّت بها بعد تعرضّها لضربةٍ مؤلمةٍ على بطنها عندما كانت تحاول مساعدة زوجها وتخليصه من بين أيدي المسلحين الثّلاثة الذين قتلوه لاحقًـا، وبعد التأخّر في نقلها إلى المستشفى. قالت:
- إنّ الضّربة سببّت لي نزيفـًا داخليـًّا، وكدت أفقد "هادي" ولم يزل بعد في أحشائي. كلّ التحاليل والصّور أظهرت أنّ الجنين في بطني تعرّض لنكسة، ولم أكن قادرة على فعل شيء، فسلـّمت أمري لله.
*ألم يكن بالإمكان التخلّص منه؟
ما كاد يلفظ آخر حروف كلماته، حتى اعتراها الغضب، فجحظت عيناها، وراحت ترمقه بنظراتٍ حادّة. انتبه إلى الأمر، فاستدرك قائلا ً:
قصدت.. كان من الممكن أن تجهضي بسبب النزيف.
استكانت قليلا ً، وقالت:
- كنت سأفعل المستحيل كي لا أجهض.
*على الرّغم من علمك أنّ طفلك قد يولد معاقـًا؟!..
- على الرّغم من ذلك.
استغرب ما قالته!.. لكنّ استغرابه جاء كنتيجةٍ حتميّةٍ لواقعه؛ فهو لم يجرّب بعد الأبوّة، ولا يدرك عظمة الأمومة. فباسمة كسائر الأمّهات، أمٌّ حاكت بأنسجة قلبها أوّل نبضةٍ في قلب جنينها، وطرّزت بخيوط حنانها ورسوم آمالها أوّل ثوب حياةٍ يرتديه، وزرّرت بإبر آلامها حضنـًا انزرع في عمق بطنها. هي أمٌّ خاطت طريق الإنسانيّة بخيوط الكون الغارق في الأسرار، ونسّقت ورود العطاء في إناءٍ شفـّاف، وزرعت شجرة الأمل في تراب المرارة المتحرّرة من الأنانية. هي أمٌّ أدركت جيّدًا معنى الزّمان، فعدّت شهورها التّسعة ثانية ثانية، وعذابـًا عذابـًا، وألمـًا ألمًـا، ووعدًا وعدًا، فكانت على موعدٍ مع أوّل صرخةٍ لمولودها. انتظرته بفارغ الصّبر. ما كانت لتكــّذب وعدها، ولا لتغدر بشقاوات هذه الشّهور، ولا لتصمّ أذنيها عن الصّرخة الوحيدة في العالم أجمع التي تعلـّمنا معنى الحياة الحقيقي.
هي أمٌّ ولكنها باتت منذ ولادة "هادي" مختلفةً عن سائر الأمّهات. لعلّ ابنها أطلق صرخته الأولى وأنار بها عقلها، لتتعرّف أكثر إلى حقيقة الحياة، ولكنـّه أيضًا، ومن دون أيِّ ذنبٍ له، زرع القهر في قلبها.
لم تطل حديثها في ذلك اليوم مع رامز. عادت إلى منزلها، وككلّ مرّةٍ تعود فيها إليه بعد زيارة "هادي"، اندسّت في فراشها محاولةً النوم، علّها تنسى وجعها قليلا ً، قبل البدء مجدّدًا في مسيرة حياتها الشّائكة.
* * *
مرّت الأيّام، فأطلّ شهر أيلول، وفتحت المدارس أبوابها استعدادًا لاستقبال الطّلاب، وبدأ المدّرسون يداومون على الحضور إلى مدارسهم.
كانت ابنة الثّامنة والعشرين قد استفادت من وقتها بالكامل خلال شهري تموّز وآب، فاستطاعت أن تسترجع معلوماتها المتعلّقة بالدّراسة الثانويّة تمهيدًا لدخولها الجامعة، كما كانت تلتقي رامزًا بشكلٍ دائم خلال تلك الفترة. لقد شعرت معه بالارتياح، ولمست صدقه وحبّه، لكنّها لم تتوصّل إلى قناعةٍ بأنّه الرّجل المؤهـّل للارتباط بها، ولا الزّوج المنتظر، لذلك طلبت منه إعطاءها المزيد من الوقت قبل اتـّخاذ قرارها النّهائي بشأن زواجهما.
جاء شهر تشرين الأوّل، وبدأ تسجيل أسماء الطلاّب الذين يودّون الانتساب إلى الجامعة اللبنانيّة. انتسبت باسمة إلى كليّة العلوم الاجتماعية الكائنة في منطقة الرّوشة في بيروت. شعرت بالسّعادة، وأحسّت أنـّها وُلدت من جديد، وأنـّها ما زالت في عمر الثّامنة عشرة. انتظرت بفارغ الصّبر الأوّل من شهر تشرين الثّاني، موعد بدء الدّراسة، وسعت جاهدة قبل ذلك التّاريخ إلى الإحاطة بكلّ شاردةٍ وواردةٍ تتعلـّق بإدارة الجامعة وأساتذتها ونمط التّدريس فيها، فاستعانت بشقيقة صديقـتها أسمهان التي أنهت دراستها الجامعيّة في الكلـّية ذاتها قبل سنة، وكانت على درايةٍ تامـّة بكلّ ما يدور فيها.
علمت الشابّة العائدة إلى مقاعد الدّراسة من شقيقة أسمهان، أنّ ثمـّة موادًا دراسيّة عدّة يحاضر فيها أكثر من أستاذ جامعي، وعلى الطّالب أن يختار الأستاذ المناسب للمادّة الواحدة. أوضحت لها أنّ ثمَّة أساتذة لديهم قناعات سياسيّة ذات طابع إسلامي، وآخرين لديهم قناعات مختلفة وفي الأغلب ذات طابع علماني، وكلّ واحدٍ من هؤلاء يقوم بأبحاثه من منطلق قناعاته، ويلقي محاضراته على هذا الأساس، ففضّلت باسمة أن تتلقــّى هذه المحاضرات من أساتذةٍ ليست لديهم قناعات سياسيّة ذات طابع إسلامي، وكان اهتمامها الأبرز ينصبّ على أستاذ مادّة علم الاجتماع التّربوي، لما لهذه المادّة من أهميّة تساعدها في مجال عملها. سألت شقيقة أسمهان عن الأستاذ الأفضل في تلك المـّادة، فأجابتها من دون تردّد:
*الدكتور "فريد عطا". إنّه إنسانٌ مميّز.
- لماذا؟!..
*أوّلا ً، لأنّه متمكـّن من المادّة التي يدرّسها. وثانيًا، لأنّه معتدل، منطقي، قريب من طلاّبه، يحترم جميع الطّوائف، ولا يؤمن بالانعزال؛ بل يناضل لتكريس مبدأ التّفاعل بين اللبنانيّين على اختلاف معتقداتهم الدينيّة، ويدافع عن الديمقراطيّة والحريّة بجرأة، بالإضافة إلى أنّه مدافعٌ عن البيئة إلى ما لا نهاية.
- ألهذا الحد؟!..
*بل أكثر من ذلك!.. تصّوري وهو المسيحي، وفي خضمّ الاقتتال الطّائفي في فترة الحرب، لم يغادر المنطقة الغربيّة من بيروت ويلجأ إلى المنطقة الشرقيّة التي لاذ إليها معظم مسيحيّي لبنان آنذاك.
- بقي هنا؟!..
*غادر فقط في آخر عام اقتتال. بقي هناك في المنطقة ولا يزال، لكنـّه أصرّ على تدريس مادّته في الفرعين الأوّل والثّاني، هنا في القسم الغربي من بيروت وهناك في القسم الشّرقي منها.
أبدت باسمة إعجابها بشخصيّة الدكتور "عطا" قبل أن تعرفه، فقرّرت أن تتابع محاضراته في مادّة علم الاجتماع التّربوي، من دون أن تدرك أنّ الشّهور المقبلة ستقلب حياتها رأسًا على عقب.
(يتبع)