16 يناير . 7 دقائق قراءة . 599
إقرأ الأجزاء السابقة هنا: الجزء الأول - الجزء الثاني - الجزء الثالث - الجزء الرابع - الجزء الخامس - الجزء السادس - الجزء السابع - الجزء الثامن
لم تكن باسمة من المهتمّات كثيرًا بالسّياسة، ولكنّها اعتادت في مسيرة حياتها أن تكون منفتحة على جميع الطّوائف التي تكوّن الخليط الاجتماعي الفريد في لبنان. لم تتــّخذ يومًا موقفـًا ضدّ أحدٍ على أساس انتمائه السّياسي أو الطّائفي؛ بل إنّها آمنت بالإنسان كقيمةٍ فكريّةٍ واجتماعيّةٍ وإنسانيّة. كان لها رأيها الموضوعي في مجريات الحرب اللبنانيّة التي بدأت شرارتها عام 1975، كما كان لها رأيها الموضوعي أيضًا في مجمل التطوّرات التي واكبت اللبنانيّين منذ إبرام اتـّفاق الطّائف عام 1989؛ الاتّفاق الذي أوقف الحرب وأرسى اللبنة الأولى لانطلاقة السّلم الأهلي وإعادة الإعمار والبناء.
آمنت تلك الشابّة بالاعتدال في المواقف والمحافظة على المبادىء التي تساعد على تطوير الإنسان في لبنان. وعلى الرّغم من أنـّها مسلمة، فلم تؤمن يومًا بأنّ الاتّجاهات السياسيّة ذات الطّابع الإسلامي، خاصّةً المتطرّفة منها، هي الحلّ الأنجع لبلدٍ يضمّ تحت جناحيه ثماني عشرة طائفةٍ تشمل الأديان السماويّة الثّلاثة، كما لم تؤمن بأنّ العلمانيّة هي الحلّ لمشاكل لبنان في ظلّ الاصطفاف الطّائفي الحادّ، على الرّغم من قناعتها بأنـّها الحلّ الأمثل في وقتٍ من الأوقات عندما تختفي تلك القوانين التي تصنـّف الإنسان فيه على أساسٍ طائفي، وعليه اختارت "فريد عطا" لتدريسها المادّة الأهمّ لديها، بعدما سمعت عنه ما سمعت. لكن عندما جاء اليوم المنتظر، موعد البدء بالدّراسة الجامعيّة، لم يحضر إلى الجامعة كي يلقي محاضرته الأولى على طلاّبه، والتي خُصّصت لها ثلاث ساعاتٍ في حصّةٍ واحدة أسبوعيّة.
مرّ الأسبوع الأوّل وأطلّ الثّاني ولم يحضر أستاذ الجامعة. استفسرت الطّالبة الجديدة عن السّبب، فعلمت أنّ زوجته في المستشفى ووضعها الصحّي الدّقيق منعه من الحضور إلى الجامعة.
كان فريد عطا في تلك الفترة يعاني الأمرّين. لم يكن قادرًا أن يحاضر أمام طلاّبه، فزوجته كانت تُحتضر بعدما أصيبت بمرضٍ عضال قبل أربعة شهور، وكان هو يحتضن عذابه بين ضلوعه، ليس لأنّ الإنسانة التي عاشت معه لأكثر من سنتين تحت سقفٍ واحد تواعدت على الموت؛ بل لأنّه أيضًا ألزم نفسه طيلة الشّهور الأربعة الماضية، بعدم تركها وحيدةً مع مرضها، على الرّغم من أنـّه كان قد قرّر الانفصال عنها، فكوّم أوجاعه في أعماقه ساعةً بساعة، ويومًا بيوم، وشهرًا بشهر، وأطلقها باتـّجاه قلبه دفعة ًواحدة وهو يراقبها في غرفة العناية المركّزة، وقد أغمضت عينيها واستكانت، ولم يبقَ فيها سوى نبضات قلبٍ تخفق ببطءٍ شديد، بانتظار مواجهة الحقيقة المطلقة، الموت.
كان الأستاذ الجامعي قد اتـّخذ قراره بالانفصال عن زوجته "كاتيا نجّار" قبل علمه بمرضها. حدث ذلك بعد أسبوعٍ من عودة صديقه الدكتور "أحمد عامر" إلى لبنان، والذي كان قد هاجر إلى كندا وبقي فيها سبع سنواتٍ متواصلة. عاد هذا الصّديق برفقة زوجته الكندية "آنا". أراد فريد حينها أن يكرّمه، فدعاه إلى تناول طعام الغداء في منزله، لكنّ زوجته كانت منزعجةً من هذه الدّعوة، فأوضح لها مدى البعد الإنساني الذي يربطه به، فبقيت منزعجة؛ بل وافتعلت التأفّف، ممّا زاد من نفوره منها، ومن توسّع الهوّة في علاقتهما التي كانت قد بدأت تكبر منذ نحو سنة.
في ذلك اليوم، جلس الصّديقان وزوجتاهما حول مائدة الطّعام في تلك الشقّة الأنيقة الواقعة في مبنى فخم يطلّ على خليج جونيه السّاحر شمالي شرقي بيروت. بادر فريد بالتحدّث إلى زوجة صديقه وهو يبتسم، قائلاً لها:
- لا تتصورّي دكتورة "آنا" كم أنا سعيدٌ بهذه اللحظات.
أجابته بلكنةٍ لطيفة:
*أنا متأكدة من ذلك، فزوجي يعتبرك الصّديق الوفي.
- لو كنـّا نتناول طعام الغداء في فترة الحرب هنا أو في منطقةٍ أخرى، لاعتبروا هذا الأمر جريمة. مصيبةٌ لو كان فريد عطا يتناول طعام الغداء مع أحمد عامر في تلك الفترة!..
*ألهذه الدّرجة؟!..
- طبعًا!.. اثنان من طائفتين تتقاتلان يأكلان سويّـا؟!.. كارثة!..
تدخـّل أحمد، فضحك بتهكـّم، وقال لصديقه:
"والله فيها ميّة إنّ "...
أجابه بفرح:
- صداقتنا تحدَّت الجميع.
*أفكارنا وقناعاتنا تحدَّت الجميع.
- قناعاتنا صحيح، ولكن، كم تعذّبنا كي نحافظ على الحدّ الأدنى من هذه القناعات؟!..
*ما زلنا نتعذّب.
- صحيح!.. ولكنـّنا بتنا نتنفـّس القليل من الحرّية بعيدًا عن رائحة البارود.
*نعم!.. إنجازٌ كبير أنـّنا لم نعد نشمّ رائحة البارود.
- والإنجاز الأكبر أنـّك قرّرت العودة إلى لبنان أخيرًا والاستقرار فيه.
بقي الأربعة نحو نصف ساعةٍ يتناولون طعام الغداء ويتبادلون الأحاديث. لاحظ الصّديق العائد من كندا انزعاج كاتيا، ففاتح صديقه بالأمر بعد الغداء عندما تسنـّى له الانفراد به في الصّالون الشّرقي. قال له:
*لست مرتاحًا لوضعك.
- أيّ وضع؟
*أنت وزوجتك.
سوّى الأستاذ الجامعي من جلوسه، وهمّ بالحديث، لكنـّه بدّل رأيه فصمت. قال له صديقه:
*ما يجمعنا عمرٌ وصداقة محفورة في أعمق أعماقنا، لم يكن أحدٌ منـّا يشعر بالرّاحة إذا لم يُخرج ما في صدره ويضعه أمام الآخر، فأرجوك دع تحفـّظاتك جانبـًا وتحَّدث إليّ!..
حدّق به بألم، ثمّ أطلق زفرة مقهور، وقال:
- سبع سنوات أحمد وأنت في كندا. تعرّفت إلى الكثير، وكنت أعرف العديد من الأشخاص، لكنـّني لم أجد أيّ أحمد يشبه أحمد الذي يجلس أمامي الآن.
*ما بكما؟
- ظننت عندما تزوّجت منذ سنتين أنــّني وجدت الحبيبة والصّديقة التي ألوذ إلى صدرها، فأشعر بحنانها، وأتحدَّث إليها، وأعبّر لها عمّا في قلبي. ظننت أنـّني سأعوّض سنوات العذاب والوجع التي عشتها فترة الحرب، لكن.. للأسف!..
*كنت أشعر بحرقتك من خلال اتـّصالاتك بي ورسائلك. لماذا؟!.. أنت لديك القدرة على تقييم الأشخاص.
عاد وأطلق زفرة ألمٍ جديدة. سوّى من جلوسه مجدّدًا، وقال:
- موّظفة في مصرف، تعرّفت إليها ولمست فيها كلّ المواصفات التي تريحني. شعرت بأنـّها إنسانةٌ راقيةٌ تتّسم بالوعي. كان كلّ شيء واضحًا قبل أن نتزوّج، وتفاهمنا على كلّ شاردةٍ وواردة، حتـّى إنّنا اتفقنا على إنجاب ولدين فقط.
*ما الذي حدث؟
- تغيّرت، وباتت مختلفة. أنا أعلم أنّ الأشخاص يتغيّرون، ولكنّها تبدّلت بسرعةٍ فائقة. أصبح مفهوم الثّقافة لديها آخر طرازٍ للسيّارات، وأثاث المنزل، والمنزل. انحصر همّها بالسّهرات والمجتمع المخملي فقط، حتّى في مسألة إنجاب الطّفل، قالت عنها: ما زال الوقت مبكرًا لذلك.
*ألهذا الحدّ ؟
- أنت تعرف كم أنا متشوّق لهذا الأمر!.. "أنا ميّت عا ولد". أصبحت في الخمسين من عمري، وبعد فترةٍ يصبح من المستحيل إنجاب طفل. حتّى هي، عمرها الآن أربعون عامًا ولديها صعوبةٌ في الإنجاب، ولكن للأسف، لم تتجاوب!.. بالإضافة إلى ذلك، أظنـّك لاحظت كيف كانت تتصّرف خلال تناولنا الطّعام.
*نعم، لاحظت ذلك، ولكن يجب أن تحاول. أظنـّها ليست بعيدةً عن التّفاهم.
- عبثـًا!.. كلّ محاولاتي باءت بالفشل، ولا أظنّها ستتجاوب معي. لقد بنت جدارًا بيني وبينها، من الصّعب هدمه.
(يتبع)