16 يناير . 6 دقائق قراءة . 645
إقرأ الأجزاء السابقة هنا: الجزء الأول - الجزء الثاني - الجزء الثالث - الجزء الرابع - الجزء الخامس - الجزء السادس - الجزء السابع - الجزء الثامن - الجزء التاسع
لم يغادر الصّديق العائد من كندا منزل صديقه في ذلك اليوم مرتاحًا. كان يعرفه تمام المعرفة. أدرك أنـّه اتـّخذ قراره بالإنفصال عن زوجته، وأنـّه ينتظر الوقت المناسب لإبلاغها إيـّاه.
لم يطل الوقت. فبعد أسبوع، كان فريد جالسًا داخل إحدى غرف شقــّـته يتفحّص كتابـًا، وكانت كاتيا جالسةً معه تتفحّص إحدى مجلاّت الأزياء. رنّ جرس الهاتف، فردّ على المتحدّث. تفاجأ إلى حدّ الصّدمة عندما أبلغه أنّ خاله قد توفــّي!.. علم منه أنـّه تعرّض لنوبةٍ قلبيـّة. استفسر عن موعد الدّفن، فأُبلغ أنـّه تقرّر عصر اليوم التّالي، حيث ستقام الصّلاة عن راحة نفسه في كنيسة "مار تقلا" في الحازميّة.
كانت السّاعة قد تجاوزت الرّابعة عصرًا بقليل عندما تلقــّى خبر وفاة خاله. أعلم زوجته بالأمر، ولفــّه الحزن الشّديد. طلب إليها تبديل ملابسها للذّهاب سويـًّا ومشاركة العائلة حزنها، فقالت له ببرودة:
- لا. لن أذهب الآن. سأذهب غدًا لتقديم التّعازي.
لم يستسغ كلامها. قال لها بنبرةٍ لم تخلُ من الغضب:
- أبلغك أنّ خالي قد توفــّي فتقولين إنـَّك ستذهبين غدّا لتقديم التّعازي؟!.. نحن أهل الفقيد، وعلينا واجب تقبـّل التّعازي مع باقي أفراد العائلة.
أجابته بنبرةٍ حادّة:
- قلت لك لن أذهب الآن.
قالتها وعادت لتتفحّص المجلـّة التي كانت لا تزال بين يديها وكأنّ شيئـًا لم يكن.
شعر بالغضب الشّديد. أحسّ به وقد بدأ ينهش قلبه نهشـًا، ويطرق أبواب رأسه. لفـّـته الحيرة وهو يحاول التّفكير في طريقةٍ للتصرّف مع زوجته، فصمت وراح يحدّق إليها، لكنّه لم يستطع دفن غضبه. عبّر عن ذلك بصوتٍ مرتفع، وهو يقول:
- هذه ليست المرّة الأولى، فمنذ أن تزوّجنا وأنت تعيشين في عالمٍ آخر. لا يهمـّك سوى السّهرات وما تزخر به من طعامٍ وشرابٍ ورقصٍ وآخر الصّرعات والسّخافات.
نظرت إليه باستعلاءٍ واستهزاء، ثمّ تابعت تقليب صفحات المجلـّة بلؤم. عاد ليحدّثها بتوتـّر. قال لها:
- يا حبيبتي.. يا حياتي.. يا روحي.. كلـّما كنت أقولها لك، كنت تظنـّين أنـّني رجلٌ ضعيفٌ أمامك لأنـّني متيـّمٌ بك. لم تفهمي يومـًا أنّ اثنين متزوّجين ليسا شخصين يتحدّيان بعضهما بعضًا، ولا لاعبين في ملعبٍ لكرة القدم يجهدان لتسجيل الأهداف ببعضهما البعض.. "آخر همّك"!..
لم تنظر إليه، وبقيت على حالها. اشتعل غيظـًا، وبدأ يتمشـّى بعصبيّةٍ داخل الغرفة. راح وجاء مرّاتٍ عدّة، ثمّ وقف أمامها، وتابع يقول:
- حاولت أن أُفهمك بكلّ احترامٍ وحبّ، لم أجرح شعورك يومًا، وأنتِ منذ لحظة زواجنا تتصرّفين وكأنك تقصدين جرح شعوري. حاولت أن أُفهمك أنّ الزّوجين شريكان، فرحهما واحد، وحزنهما واحد، وحاضرهما ومستقبلهما واحد، ولكن... عبثـًا!.. لم تفهمي ولا تريدين أن تفهمي.
عاد ليتمشـّى بتوترّ. راح وجاء مرّتين قبل أن يقف أمامها مجدّدًا ويتابع كلامه. قال لها بحرقة:
- حتّى الابن الذي هو رمزٌ لمستقبلٍ واحد، حرمتني إيـّاه، وأنتِ تعرفين جيّدًا كم أنا "محروق عا ولد".. لماذا؟!.. لماذا يا كاتيا؟!..
لم تحتمل كلامه، فوقفت وأظهرت غضبها واستياءها، ومشت باتـّجاه الدّاخل. صرخ بها:
- ثمـّة كلمةٌ بعد يجب أن تسمعيها قبل ذهابك.
توقــّفت، ونظرت إليه بانزعاج. قال لها:
- انتهى كلّ شيء بيننا.
أنهى كلامه وغادر الغرفة غاضبًا، تاركـًا زوجته في صدمة؛ فهي لم تتوقـّع منه هذا القرار، ولم تجد سبيلا ً إلا ّ الارتماء فوق أحد المقاعد والغرق في البكاء.
اتــّصل فريد بصديقه أحمد، وأعلمه بوفاة خاله وبالذي حدث بينه وبين زوجته، وأبلغه أنّه سيغادر شقــّته وسينزل في أحد الفنادق. لكنّ الصّديق أصرّ عليه للبقاء معه ومع زوجته.
كان أحمد عامر قد ابتاع شقــّةً فخمةً في حيٍّ راقي قريبٍ من منزل صديقه، واستطاع تجهيزها بالأثاث في وقتٍ قصير، وشاءت الصّدف أن يكون هذا الصّديق أوّل شخصٍ تطأ قدماه غرفة الضّيوف الأنيقة.
في تلك اللّيلة، لجأ الأستاذ الجامعي إلى فراشه باكرًا. لم تكن السّاعة قد تجاوزت التّاسعة بعد. كان يومـًا مرهقـًا وحزينـًا عليه. تمّ دفن خاله وبقي يتقبّل التّعازي حتّى بداية المساء. كانت تلك اللّيلة الثّانية في منزل مضيفيه. غار في نومٍ عميقٍ بعد لحظاتٍ قليلة من تمدّده على السّرير، من دون أن يعلم أنـّه كان محور حديثٍ يتبادله صاحبا الشقّة؛ فالاثنان شعرا بالألم الذي أحاط به، وعبّر أحمد عن ذلك بقوله لزوجته:
- لقد عشت معه مخاضًا أثناء الحرب، والآن بدأت أعيش معه مخاضًا من نوعٍ آخر.
تنهّد قليلا، وقال:
- لقد تعرّض لمضايقاتٍ عدّة خلال الحرب من طرفي الاقتتال؛ هناك في المنطقة الغربيّة عومل على أساس انتمائه لطائفةٍ تقاتلهم، وهنا في المنطقة الشرقيّة، اعتبروه خارجًا عن إرادتهم. تعذّب حتّى اليأس ولكنّه لم ييأس ولم يشعر بالإحباط. كان قويًّا وصمد. دافع عن مبادئه الإنسانيّة بكلّ ما أوتي من عزمٍ وتصميم وصمد. أمّا الآن فهو محبطٌ بالفعل.
*أنا حزينةٌ جدًا لأنّه انفصل عن كاتيا.
- فريد لم يأخذ قرارًا في حياته إلا ّ بعد درسه جيّدًا، وأنا متأكـّدٌ أنـّه لو كان لديه باب أملٍ صغيرٍ لما قرّر الانفصال عنها.
*هل ناقشت معه الأمر؟
- لا. كان متعبـًا جدًّا.
صمت قليلا ً، ثمّ تابع يقول:
- زوجته ما تزال في الشقــّة، لذلك قد يطول مكوثه عندنا.
اقتربت منه، وزنـّرته بذراعيها، قائلةً بحنان:
- صديقك يعني أنـّه صديقي، وهذا منزله.
لمعت عيناه وهو يسمعها. ضّمها إليه بقوّة، وطبع على شفتيها قبلةً لطيفة، ثمّ همّس إليها بكلمة "أحبك".
(يتبع)