02 فبراير . 6 دقائق قراءة . 672
إقرأ الأجزاء السابقة هنا: الجزء الأول - الجزء الثاني - الجزء الثالث - الجزء الرابع - الجزء الخامس - الجزء السادس - الجزء السابع - الجزء الثامن - الجزء التاسع - الجزء العاشر
صباحـًا، جمعت الشّرفة الفسيحة في الشقّة، الثّلاثة. جلسوا يشربون القهوة في جوٍّ هادىءٍ وحزين. راح فريد يتحدّث عن خاله وعن اليومين المقبلين لتقــّبل التّعازي به. صمت بعد فترة، وقال لصديقه:
- شقّتك جميلة.
*شكرًا.
عمّ الصّمت لبعض الوقت، ثم تنحنح أحمد، وقال له:
*لم أشأ أن أحّدثك بشيءٍ أمس.. قصدت موضوع كاتيا.
وقبل أن يجيبه، نهضت "آنا"، وقالت بالإنكليزية:
Excuse me
انصرفت، فعاد أحمد يحدّثه. قال له:
*إذا كنت تشعر بأنـّك تستطيع التكلّم في الموضوع فأنا جاهزٌ كي أسمعك.
أجابه من دون أن يستطيع إخفاء بعض الاضطراب:
- لا.. لا.. لا مشكلة.. كان يُفترض اتّخاذ هذا القرار منذ مدّة.. لا تزال في المنزل، ولا بأس إذا أرادت البقاء.
*هل علم والداها بالأمر؟
- والدها سعدلله نجّار إنسانٌ راقٍ وواع. لم يتسنّ لي إبلاغه بعد، لكنـّه لاحظ أنّ شيئـًا ما يحدث، لأنّ ابنته لم تحضر قدّاس وجنـّاز خالي، ولا أدري إذا كانت قد أبلغته بشيء.
*هل بإمكانك إصلاح الأمر؟
- حاولت كثيرًا، وأنت تعرف جيّدًا كيف أتّخذ قراراتي.
ناقشا الموضوع، وبقيا على هذه الحالة أكثر من ربع ساعة قبل أن يطلب فريد إليه التوقّف عن النّقاش، وليسأله بعدها:
- ماذا قرّرت أن تفعل؟
*كما أخبرتك سابقـًا، فمشاريعي كثيرة.. خطوة بخطوة.
- لقد اهتزّ البلد العام الماضي بعد أن نشرت مقالاتك إحدى الصحف.
*ما دمنا خائفين من قول الحقيقة، يعني أنـّنا نهرب من مسؤوليّاتنا، والبلد لا ينهض بهذه الذهنيّة.
- كثيرون اعتبروا أنـّك ركبت موجة أعداء لبنان، واتـّهموك بالعمالة لإسرائيل وأميركا، وبأنّك مأجور.. يعني.. لقد تابعت الأمر.
*البعض في لبنان يريد أن تبصم له على الخطأ وإلا ّ فأنت مأجورٌ وعميلٌ وعدو. أمـّا أن تشير إلى هذا الخطأ وتضع حلولا ً متطوّرة، فيبدو أنّ هذا الأمر محرّمٌ عندنا.
- أظنّ أنّ الأمور بدأت تتغيّر قليلا.
*لا.. ليس من السّهل تغيير الذهنيـّات العفنة. أمامنا مشوارٌ طويل لنبني بلدنا كما نحلم به. المهمّ ألا نخاف فريد. إذا كنت تحبّ بلدك وضميرك مرتاح فلا تخف. تحدّث بالذي تريده. أنا فعلت ذلك. كلّ الذي بيّنته في مقالاتي ودراساتي أنّ هناك استهتارًا بالبيئة في لبنان، وثمّة عصاباتٌ منـظّمة في مواقع المسؤوليّة آخر همّها البلد حتّى لو دُمّر؛ هذا الذي بـّينته. ما الذي فعلته؟!..
ردّ عليه بابتسامة خجلى، وبدهشة:
- ما الذي فعلته؟!.. "زلزلت البلد"!.. في كلّ الأحوال، ما الذي ستفعله الآن كخطوةٍ أولى؟
*سأقوم بشيئين: أوّلا ،ً سأبدأ بمركز الدّراسات والأبحاث البيئيّة، ولاحقـًا سأصدر مجلّةً من خلال هذا المركز، والمشروع أصبح جاهزًا. ثانيـًا، قرّرت تأسيس جمعيّةٍ للبيئة، وأنت ستكون من المؤسّسين لهذه الجمعيّة إلا ّ إذا لم تعد مهتمـًّا بالموضوع.
أجابه بإصرار:
- أنا؟!.. يدي بيدك، فالبلد بحاجةٍ ماسّة لأمثالك.
*ولأمثالك أيضًا.
بقي الصّديقان يتحدّثان لفترةٍ طويلة، في وقتٍ كان سعدلله نجّار يزور مع زوجته، ابنتهما كاتيا التي كانت في المنزل ولم تذهب إلى مكان عملها لليوم الثّاني على التّوالي.
سألها الوالدان عن زوجها، فردّت بانزعاج:
- ليس هنا.
قال لها الأب:
- ما الذي يحدث بينكما؟!.. ألم يحن الوقت كي تقولي لنا ما الذي جرى ومنعك من حضور الجنّاز؟
أجابته بتبسيط:
- قلت لكما لا شيء.. سوء تفاهم بسيط!..
لم يستطع الوالدان معرفة تفاصيل عن سوء التّفاهم هذا، ولم يقتنعا بكلام ابنتهما. صمّما على انتزاع الحقيقة منها انتزاعـًا، لكنّ أمرًا ما حدث، وأزاح عن أفكارهما هذا التّصميم. ففجأة !.. وحينما كانت الابنة تحدّثهما، بدأت تتلعثم بالكلام، ثمّ أطبقت عينيها وفقدت وعيها.
صُدما!.. نقلاها إلى المستشفى فورًا، وأدخلاها قسم الطّوارئ، ومن هناك اتـّصل سعدالله بفريد، فتوجّه مسرعـًا برفقة أحمد وآنا إلى المستشفى التي أُدخلت إليه زوجته.
مرّ أسبوعٌ خضعت خلاله الزّوجة المريضة لفحوصاتٍ شتّى، وأُخذت الصّور الطبيّة المتعدّدة لرأسها. عاد زوجها إلى شقّته، وبات ينام فيها، ويمضي كامل النّهار قرب زوجته في المستشفى. لم يحدّثها بشيءٍ ولم تسأله عن شيء. كان الأمر يتطلّب الرّهبة والصّمت. انتظرا نتائج الفحوصات الطبيّة بقلق، وجاء يومٌ آخر حزين عندما استدعى الطّبيب فريدًا مع والد زوجته إلى مكتبه، ليبلغهما أنّه تمّ اكتشاف ورمٍ خبيث قرب دماغ كاتيا. صُعق الزّوج والوالد!.. سأل الأستاذ الجامعي الطّبيب بدهشة:
- ورم؟!.. ماذا يعني هذا؟!.. سرطان؟!..
أومأ الطّبيب برأسه بالإيجاب، من دون أن يتفوّه بكلمة. سأله سعدلله بتأثــّر:
- ما معنى هذا؟!.. ما نسبة الخطورة في ذلك؟!..
*للأسف، كبيرة جدًّا!.. الورم موجودٌ منذ فترةٍ طويلة، وقد وصل إلى مرحلةٍ متقـدّمة وخطيرة.
- ما هي خطورة هذه المرحلة؟!..
*الإرادة لله.
قالها فنزلت كالصّاعقة على الأب والزّوج. غار الأوّل في مقعده، ودمعت عينا الثّاني، ولم يخفِ الطّبيب تأثــّره البالغ.
بعد ثلاثة أيّام، خرجت كاتيا من المستشفى. عادت إلى شقّتها برفقة والديها وزوجها. لم يمكث الوالدان كثيرًا هناك. غادرا تاركين الزّوجين لوحدهما مع خادمتهما، وبعد مغادرتهما، أراد الأستاذ الجامعي ترك زوجته لترتاح في غرفة نومها، لكنّها طلبت إليه الانتظار قليلاً. قالت له بصوتٍ مشبع بالإحباط:
*اجلس. أريد أن أحدّثك.
جلس والحزن يسكن في عينيه. قالت له:
*لقد شجّعني الطّبيب ليرفع من معنويّاتي، ولكنـّني أعرف أنّ مرضي خطيرٌ ولن أنجو منه. إنـّـني أشعر بذلك.
- لا تقولي هذا الكلام.
*لم يعرف أبي وأمّي أنـّك قرّرت الانفصال عنـّي.
- سلامتك أهمّ.
*خفت عليهما من عدم تحمّل الصّدمة.
- لا داعي لهذا الكلام الآن.
حاولت أن ترفع من وتيرة صوتها قليلاً، وقالت بتأثــّر:
*كلّ الذي أطلبه منك ألا تشعرني بشفقتك عليّ خلال الفترة التي سأتلقـّى فيها العلاج.
اغرورقت عيناها بالدّموع. دمعت عيناه أيضًا. قال لها:
- كوني على ثقةٍ بأنـّني سأكون مثال الزّوج الصّالح، وستكون معاملتي لك بعيدةً كليًّا عن أيّة شفقة.
*سأتقدّم بطلب استقالتي من المصرف، فلن أتحمّل العمل المضني والعلاج المؤلم.
- هذا أفضل.
أنهيا حديثهما القصير، وغادر الزّوج حزينًا إلى غرفةٍ أخرى. جلس هناك، وغاص في أعماقه وتفكيره، وبدأ رحلته المتجدّدة مع العذاب.
(يتبع)