الغرفة السفليّة (الجزء الثّاني عشر) 

02 فبراير  .   5 دقائق قراءة  .    685

Photo by Kristijan Arsov on Unsplash

      إقرأ الأجزاء السابقة هنا: الجزء الأول - الجزء الثاني - الجزء الثالث - الجزء الرابع - الجزء الخامس - الجزء السادس - الجزء السابع - الجزء الثامن - الجزء التاسع - الجزء العاشر - الجزء الحادي عشر

شعر فريد كم أنّ الإنسان ضعيفٌ أمام عذابات آخر، وتعجّب للمرّة الألف من أولئك البشر الذين لا يرقّ لهم قلب، ولا تدمع لهم عين، ولا يرفّ لهم جفن، وهم يعرفون أنّ مجتمعاتٍ بأكملها تعاني الجوع أو المرض أو الاضطّهاد، أو أولئك الذين يأمرون بإزهاق أرواح آلاف النّاس في سبيل إرضاء نزواتهم وإشباع أنانيّاتهم.

جلس هناك في الغرفة المجاورة لتلك التي ترقد فيها زوجته، متأثّرًا ممّا سمعه منها. كان قد اتـّخذ قرارًا جديدًا بشأنها يوم دخولها المستشفى. قرّر حينها الوقوف إلى جانبها في محنتها. لم ينتظر نتائج الفحوصات الطبيّة كي يقرّر؛ بل إنّ كيانه أمره أمرًا باتّخاذ هذا القرار. أبلغ ذلك إلى صديق عمره في اليوم ذاته. قال له يومها:

- لن أسامح نفسي إذا مضيت في الابتعاد عنها وهي ممدّدة فوق فراش المرض، وأتمنّى ألا يكون لديها مشكلة صحيّة كبيرة تذيقها ألوان الألم.

لم يستطع الأستاذ الجامعي إلا ّ الوقوف إلى جانب زوجته. نسي آلامه وأحسّ بضآلتها أمام الآلام النّاجمة عن المرض. هكذا تعوّد أن يقيس المسائل، الإنسان أوّلاً، بعيدًا عن كلّ أنانيّة ومصلحة ذاتيّة. ارتضى المعاناة مرّات عدّة من أجل الآخرين. هو ليس بنبيّ ولن يكون، لكنـّه يدرك قيمة الغرسة التي زُرعت في كيانه، ونمت بالتّجربة والمبادئ، ولعلّ هذا الإدراك هو الذي جعله متمّيزًا بنظر من عرفه.

مضى نصف ساعة وهو أسير تفكير عميق بسيرورته وكيانه وتاريخه ومستقبله. لم يوقفه عن ذلك إلاّ قدوم صديق عمره وزوجته للاطمئنان عن كاتيا التي كانت ما تزال مستيقظة.

مرّت دقائقٌ قليلة. بقيت "آنا" قرب الزّوجة المريضة، وجلس الزّوجان في "الصّالون الشّرقي"، وراحا يتحدّثان. قال أحمد لفريد:

*أنت كبير.. إنسانٌ بكلّ ما للكلمة من معنى.

- الإنسان كيان. أصبح عمري خمسين عامـًا.. في كلّ ثانية من عمرك يحدث معك شيء، وتتعلّم من هذا الشّيء، وفي النّهاية، ثمّة خبرات ومعاناة وبكاء وفرح وحزن وآمال وناس وثقافة وعادات..

قاطعه قائلا ً:

*كلّ ذلك يصنع كياننا.

- نعم. كلّ ذلك يصنع كيانـًا. خمسون عامـًا صنعت منـّي فريدًا الذي لم يستطع ترك إنسانة تتعذّب حتّى لو تعذّب هو.

*حاوِل التّعويض عن عذابك بالعمل والعطاء.

أجابه بلهفةٍ ممزوجة بالقهر:

- لكنـّني أحتاج إلى امرأة. أنا بأمسّ الحاجة إلى امرأة. أنا أضحك على نفسي. إنـّني محتاجٌ إلى لمسةٍ حنون. اشتقت إلى معانقة إنسانةٍ تعني لي شيئـًا.

تأثّر أحمد بكلامه. اقترب منه، وربّت على كتفه، وقال:

*أنا أفهمك جيِّدًا. أفهم، ولكنّني لا أستطيع أن أقول لك فتّش عن هذه المرأة، أقــّله الآن، لأنـّك حسمت الأمر واتـّخذت قرارك الجديد بشأن زوجتك.

مرّت الأيّام ببطء. بدأت زوجة الأستاذ الجامعي تتلقــّى العلاج الكيميائي للحدّ من انتشار الورم الخبيث في رأسها. كانت آلامها لا تُطاق، وعلى الرّغم من تأكيد الأطبّاء أنّ معجزةً فقط ستنقذها من الموت المحتــّم، فإنّ زوجها حرص كلّ الحرص على تلقــّيها العلاج في الوقت المحدّد، وعرضها على أكثر الأطبّاء شهرة في لبنان، وحاول اصطحابها إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة لمتابعة العلاج  في أهمّ المراكز الطبيّة المتخصّصة بالأمراض السرطانيّة، لكنّ وضعها الصحّي لم يسمح لها بالسّفر.

حاول فريد أن يقوم بواجباته تجاه زوجته على أكمل وجه. رأى في ذلك خطوة للتّخفيف من آلامه العاشبة في روحه؛ فالعطاء عنده صفةٌ متجـذّرة في عقله وقلبه. أراد أيضًا التّعويض عن قراره السّابق بالانفصال عنها، لكنّ مرضها كان أقوى من كلّ الجهود التي بذلها لمساعدتها على الشّفاء.

شعر أحمد عامر أنّ صديقه غارقٌ في الحزن وفي بحيرة الشّعور بالذّنب تجاه كاتيا. تأكّد من إحساسه هذا عندما سأله ذات يومٍ عمّا إذا كانت زوجته المريضة قد شعرت بعوارض سابقة قبل دخولها المستشفى لأوّل مرّة. أجابه بطريقةٍ تحمل معها عقدة ذنب. أخبره أنـّها كانت تشكو من ألمٍ دائم في الرّأس، وأنـّه طلب منها مرّتين إجراء الفحوصات اللاّزمة ولم تفعل، فلم يُعد الكرّة.

صمّم أحمد على مدّ يده إلى صديقه قبل أن يجرفه وضعه النّفسي المتأزّم إلى الهاوية. زاره وحيدًا في ذلك المساء. كان منتصف شهر آب يتهيـّأ للنهوض بعد ساعات. جلس معه كالعادة في "الصّالون الشّرقي". راح يحدّثه عن مركز الدّراسات والأبحاث البيئيّة الذي أنشأه، وأبلغه أنّ التّرخيص للمجلّة البيئيّة سيتمّ في وقتٍ قريب. أسهب في الحديث. كان يحاول جرّه إلى مشاركته اهتمامه. نجح في ذلك. سأله فريد:

- ماذا عن الجمعيـّة البيئيـّة؟

أجابه:

- بصراحة!.. الموضوع بات جاهزًا ولكنّنا ننتظرك كي ترتاح قليلا ً لنعقد اجتماعنا الأوّل ونجهّز الأوراق اللاّزمة للحصول على ترخيصٍ رسميٍّ لها.

قال له بحزم:

- الزّمن لا يتوقـّف والحياة تمشي من دون استئذانٍ من أحد. حدِّد الوقت الذي تراه مناسبًا وأنا مستعدّ.

ترك هذا الجواب انطباعًا جيّدًا لدى أحمد. أدرك أنّ صديقه لا يزال كما عهده؛ رجلا ً بكلّ ما للكلمة من معنى. واقعيًّا، لا ينحني لعواصف القدر ولا يضعف، ولا يمزج عواطفه بالعمل الجدّي. كما أعطى هذا الجواب لفريد نفسه شحنةً من تحدّي الذّات وإثبات قدراتها، وأنقذه من الغرق في حُمم الشّعور بالذّنب، والاحتراق بنار العذاب.

 

                                                                                       (يتبع)

 

 

  4
  1
 0
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال