26 فبراير . 6 دقائق قراءة . 568
إقرأ الأجزاء السابقة هنا: الجزء الأول - الجزء الثاني - الجزء الثالث - الجزء الرابع - الجزء الخامس - الجزء السادس - الجزء السابع - الجزء الثامن - الجزء التاسع - الجزء العاشر - الجزء الحادي عشر - الجزء الثاني عشر- الجزء الثالث عشر - الجزء الرابع عشر
غادر النّقيب المكتب وبدأ يجهّز ما طُلب منه. مرّت ثلاثة أيّام من دون أن يجهز الملف. كان مجلس الوزراء يتحضّر حينها لطرح موضوع التلوّث الذي أصاب المياه الجوفيّة والعديد من الينابيع مع بداية فصل الصّيف والموسم السّياحي، فأدرجه كبندٍ رئيسٍ في جدول أعماله في أولى جلساته الأسبوعيّة، بعد أن علت أصوات المنتقدين من أنصار البيئة، وبعد أن عملت وسائل الإعلام المختلفة بكلّ طاقاتها لتسليط الضّوء على الموضوع.
شعر العقيد سمير أنّ الضجّة المثارة حول تلوّث المياه ستصيب وزير البيئة بالصّميم، وستحمّله المسؤوليّة المباشرة، وتتّهمه بالتّقصير. أعادته ذاكرته إلى مقالات أحمد عامر واتّهاماته للوزير ذاته منذ عام، بأنّه لم يتّخذ أيّة إجراءاتٍ جدّية لمعالجة الموضوع. أراد أن يفعل شيئًا، فاستدعى مساعده إلى مكتبه. سأله بانفعال:
- مرّت ثلاثة أيّامٍ ولم تجهّز لي الملفّ بعد. لماذا؟
أجابه:
*سيكون جاهزًا خلال وقتٍ قصير.
قال بحدّية:
- بل خلال أربعٍ وعشرين ساعةٍ كحدٍّ أقصى. ثمّة جلسة لمجلس الوزراء بعد يومين، والموضوع البيئي هو البند الرّئيس على جدول أعماله، وأنت مدركٌ للمشكلة التي سبّبها "الزّفت" أحمد عامر منذ سنة.
*"حاضر سيدنا".. سنضاعف جهودنا.
هدأ سمير قليلاً، وقال:
- "يعطيكم العافية".. يجب أن يكون بين أيادينا بعض المعلومات، فوزير البيئة يهمّني أمره لأنّه من أعزّ أصدقائي وأصدقاء والد زوجتي.
تمّ تجهيز الملفّ أخيرًا. لم تمضِ مهلة الأربع وعشرين ساعة، إلاّ وكانت المعلومات المطلوبة بين يديه. راح يتفحّص الأوراق في الملفّ، والنّقيب ينتظر لسماع تعليقاته. ورد أمامه اسم الدكتور فريد عطا. لم تُذكر معلوماتٌ كثيرة عنه، فسأل مساعده:
- من هو؟!.. المعلومات قليلة عنه.
*لا نعرف عنه إلاّ أنّه أستاذٌ جامعيٌّ يدرّس في الجامعة اللبنانيّة، وهو صديقٌ لأحمد عامر.
- أريد معلوماتٍ وافرة عنه. أنا أشعر أنّ "الأفندي أحمد بيك"، سيخلق لنا مشكلات عدّة، لذلك يجب أن نعرف كلّ شيءٍ عن أصدقائه.
وهكذا، فُتح ملفٌ لفريد عطا، فنشط العديد من العناصر الأمنيّة لجمع المعلومات عنه، ولم تمضِ أيّامٌ قليلة حتّى كانت الصّفحات البيضاء في ملفّه قد امتلأت؛ اسمه، اسم والده، اسم أمّه، اسم زوجته ووظيفتها، متى يغادر منزله؟.. متى يعود إليه؟.. ما نوع السيّارة التي يقودها؟.. إلى ما هنالك من معلوماتٍ تمّ تكليف أشخاصٍ بجمعها، فراقبوا ودقّقوا وجمعوا وأبلغوا.
كانت عودة الدكتور أحمد عامر إلى لبنان مع بداية صيف العام 1998، قد أخذت حيّزًا كبيرًا من اهتمامات الضبّاط الكبار في الجهاز الأمني الذي يتبع له سمير حصرمي؛ فالرّجل بنظرهم يشكّل خطرًا كبيرًا على الدّولة، وهو باحثٌ أكاديمي ومحلّل معروف في الأوساط المحليّة والعالميّة، ومدافعٌ جريء عن البيئة إلى حدّ الثّورة على الواقع، وتؤيّد أفكاره وطروحاته شريحة كبيرة من الشّباب المنتشرين في الجامعات وشتّى قطاعات العمل. لذلك، كانت الأوامر واضحة للعقيد من قيادته:
- "يجب عليك العمل بأقصى طاقاتك مع الفريق لتحجيم هذا الرّجل".
لم يكن الضّابط المنضبط ليخالف أوامر قيادته، فصمّم على الحدّ من نشاطات ذلك الباحث العائد من كندا مهما كلّفه الثّمن، وزاد من تصميمه هذا، مشاهدته لمقابلةٍ قصيرةٍ معه أجرتها إحدى المذيعات في إحدى المحطّات التلفزيونيّة المحليّة، بعد يومٍ من جلسة مجلس الوزراء التي بُحث فيها موضوع تلوّث المياه الجوفيّة والينابيع، والذي لم يُتّخذ أيّ قرارٍ بشأنه.
كان سمير يتابع المقابلة من منزله. سألت المذيعة الدكتور أحمد:
*لقد أثرت موضوع تلوّث المياه في مقالاتٍ عدّة العام الماضي، واتّهمت وزير البيئة آنذاك، والذي لا يزال في الوزارة، بالتّقصير وعدم معالجة الأمر. هل ما زلت عند رأيك؟
أجابها بثقة:
- بالتّأكيد!.. فأنا أملك وثائق تثبت صحّة اتّهاماتي، وحتّى لو لم تكن هذه الوثائق بحوزتي، فما تفسيرك لما حدث أمس في جلسة مجلس الوزراء؟
*لم يُتّخذ قرار.. حدثت ضجّة حول الموضوع...
قاطعها قائلاً:
- بل فضيحة!.. هذا فسادٌ بكلّ ما للكلمة من معنى، وإذا أردت أن أريح ضميري أكثر، أعلن أمام المواطنين، أنّ مجموعةً من النّافذين تشكّل "مافيا" حقيقيّة، تستفيد من صفقاتٍ على حساب البيئة في البلاد، والوزير المختص.. ماذا فعل؟!.. هاه؟!..
*ماذا يعني هذا الكلام ؟
- يعني أنّ بعض الممسكين برقاب العباد والبلاد، يستغلون مراكزهم وسلطتهم لتحقيق مكاسب ماليّة على حساب النّاس وأموالهم.
كانت المقابلة قصيرة، فهي لم تتعدّ العشر دقائق، لكنّ ما قاله الباحث الأكاديمي خلالها، لفت انتباه الكثيرين خاصة المعنيّين باتّهاماته.
في تلك اللّيلة، صمّم سمير حصرمي أكثر على مواجهته، وترافق هذا التّصميم مع اتّصالٍ هاتفيٍّ تلقّاه في اللّيلة ذاتها من "رئيسه". سمع منه كلماتٍ قصيرة كانت كافية ليفهم ما المطلوب منه. قال له:
- اسمع عقيد!.. أمامنا مهمّات كبيرة، فليس هذا الطّفيلي من يعيق هذه المهمّات.
عرف ضابط الأمن حينها أنّ عليه وضع خطةٍ تساعده على تضييق الخناق على "الدكتور"، وتحدّ من نشاطاته. علم بأمر مركز الدّراسات والأبحاث البيئيّة، وبموضوع المجلّة، لكنّه لم يستطع أن يفعل شيئًا لإيقاف هذين المشروعين، ولم ينجح أيضًا في تأخير إصدار رخصة "جمعيّة التّوعية البيئيّة" التي ترأّسها فريد عطا، لكنّه نجح في إعاقة موضوعٍ سعى أحمد لإنهائه بسرعة.
فمنذ عودته إلى لبنان، شرع هذا الباحث في إنهاء المعاملات المتعلّقة بحصول زوجته الكنديّة على الجنسيّة اللبنانيّة. القانون كان واضحًا في هذا الشّأن. كلّف أحد المحامين البارعين لإنجاز الأمر، لكنّ سمير حصرمي استخدم نفوذه واستطاع أن يوقف المعاملة، ثمّ في فترةٍ لاحقة تمكّن من إخفاء الملفّ بأكمله، ممّا أغاظ صاحبه الذي لم يشعر بأنّ الأمر مدبّر؛ بل اعتبره إهمالاً من قبل بعض الموّظفين.
لم يكن أحمد عامر ولا فريد عطا يدريان أنّ ضابطًا أمنيًّا شذّ عن مهامه وتجاوز الحدود المرسومة له للقيام بدوره الوطني، ووقف لهما ولأمثالهما بالمرصاد، ويسعى إلى وضع العراقيل أمامهما مهما كان حجم تلك العراقيل.
(يتبع)